الأربعاء، 2 أغسطس 2017

حتمية فشل المدن الاقتصادية / حمزة السالم

الخميس 01 سبتمبر 2016

د. حمزة السالم
المسكوت عنه


أرشيف الكاتب

Blow the whistle «نفخ الصافرة» مصطلح إنجليزي يُستخدم عندما يكشف الرجل عن أمر كان مسكوتا عنه. وهذا قد يكون موقفا شجاعًا وواجبًا وطنيًا، وقد يكون خيانة أدبية أو مهنية.

ولم يسبق لي قط أن قمت بنفخ الصافرة، على كثرة الأمور التي يتساءل الإنسان عن جواز السكوت عنها، لكونها تقع في منزلة ضبابية تسمح للنفس أن تتأول الصمت لتنجو، من تبعيات نفخ الصفارة. واليوم لم تستطع نفسي تأويل الكتمان لتركن للسلامة، فكم قد جنى على بلادنا تأول أبنائها في تقديمها دونهم.

فقبل نحو من ثلاثة أعوام، وبالضبط في منتصف عام 2014 م، كنت قد دُعيت لمراجعة ترجمة الصيغة النهائية لخطاب وملخص تنفيذي -سيُرفع لجهة رسمية عليا- لاتخاذ قرارات إستراتيجية بشأنه. والخطاب كان زبدة دراسات تشخيصية وحلول لمدينة الملك عبد الله مع خطة مستقبلية. وكانت ماكينزي هي من أعد الدراسة كجهة مستقلة ثم كانت بعد ذلك المستشار الأساسي لنا، من أجل تقديم الخطط والحلول.

فوجدت خطابًا لا يمت لشيء مما في الدراسة والتقارير، بل هو خليط من أحاديث الشارع وتصوراته، كأطروحات أعضاء مجالس الإدارة أو أعضاء اللجان. وأما الملخص التنفيذي فقد وجدته مقتطفات عشوائية من التقرير لا يستطيع قارئ الخروج منها بشيء، وقد بلغ حجمه نصف حجم الدراسة. وهذا كان ثمرة جهود عمل دؤوب طويل لماكينزي مع فريق العمل السعودي المكون من داخل المدن ومن الجهة الرقابية المسئولة.

وبعد تصفح سريع، وجدت إفساد إعمار للمدينة واضحاً كالشمس ووجدت تلفيق ماكينزي للأرقام من غير أي تبرير إلا أحاديث القلة التي كانت تسكن هناك. ووجدت أن التزامات إعمار التي قدمتها بعد نهاية هذه الدراسات، هي التزامات لها تضمن مصالحها في حالة نجاح المدينة، وليست التزامات عليها.

والأهم من هذا كله وجدت أن الميناء الذي هو عماد المدينة وسببها، وهو دافع إفساد إعمار، لم يكن له أي ذكر في الدراسات. اللهم إلا في سياقات عابرة ليس لها وزن على الدراسة ولا أثر. وهذا من التقية التي تتبعها ماكينزي، لكي تخادع المغفل وتتقي ملاحقة الفطن.

ولقطع اللف والدوران المؤكد حدوثه من ماكينزي وفريق العمل، لعوج الحقائق بعد هذا المقال، فيكفي أن أقتبس من الخطاب الرسمي النهائي المقطع الوحيد الذي ذكر فيه لفظ الميناء. وهذا الخطاب هو الذي يحمل زبدة التقييم والحلول. وهذا الخطاب هو ثمرة ما بذلته ماكينزي وفريق العمل السعودي من جهود مضنية وطويلة، والأهم أنه يشُكل خلاصة معرفة وفهم الفريق السعودي للموضوع، كما يحمل الدليل على عدم أمانة ماكنيزي وانحيازها ضدنا. وهذا هو النص:

«وبغض النظر عن إيقاع التطوير حتى اليوم، فإن هناك إنجاز بارز يمكن إلقاء الضوء عليه وهو تطوير أول ميناء خاص بالكامل في المملكة العربية السعودية وهو ميناء الملك عبد الله الذي يعد إنجازا متميزا للمدينة. ويتفق السكان على أن لهذا الميناء دور هام وسيؤدي لتغيير مسار الأمور للأفضل وتحريك المدينة للأمام» انتهى .

فتأمل يا رعاك الله، هذا الخطاب الذي كان سيرفع للقيادة العليا لاتخاذ القرارت الإستراتيجية بشأن وضع المدينة.

فالخطاب قد تأسس على معلومة باطلة. فلم يكن هناك ميناء، ولم يُستخدم الميناء في الدراسة أصلا. بل ويكفي أني طلبت منهم عقود الميناء لمراجعتها، فاكتشفوا حينها أنه ليس هناك عقودا للميناء ولا يعرفون له مالكا. ولم يكونوا يدرون عن شيء بشأن الميناء. وثم تأمل في مهنية ماكينزي ومرجعية أرقامها. «إتفاق السكان»، وهذه العبارة استخدمت كثيرا في تبرير الأرقام. فماكينزي لم تأت بأي تبريرات في أرقامها المستقبلية إلا من حديث السكان، وقد كان من المفترض أن يكون الميناء هو المرجع لكل تصور مستقبلي. وثم أنظر للتمويه، ومن هم سكان المدينة أنذاك وكم عددهم. هذا فن الدجل والتهريج. فلما وضحّت ذلك لهم، قام المسئول الفاضل الذي اكتشف ضياع فريقه، فزودني بالتزامات إعمار الجديدة أمام التزاماتنا، التي قدموها بمعونة ماكينزي ومشورتها وجهود فريق العمل، والتي كانوا يفخرون بها، فوجدتها كوضوح الشمس بأنها التزامات لإعمار تصب في مصلحتهم لا عليهم.

وعموما، فقد أُفهمت بأن الموضوع قد وصل لولي الأمر، وأن موضوع الإفساد سيكون من المسكوت عنه. فالتزمت الصمت، وكتبت خطابًا واضحًا من صفحتين لخصت فيه الحقيقة واعتمدت الميناء كمرجع للمدينة، دون الإشارة للإفساد. ولا أدري عما تم رفعه. -لكن بلا شك لم تُرفع مائة صفحة من العشوائيات التي كانت جاهزة للرفع-. وما دام قد وصل العلم لولي الأمر، فقد أديت واجبي. فلا أتعدى مقامي فالأمر أمره، وليس من شأني فهم سبب قرار السكوت ولا مناقشته إن لم يطلب مني.

ومرت أعوام ثلاثة حتى علمت الأسبوع الماضي أنه قد تم أخذ الإجراءات اللازمة من حينها، بناء على ما قد كشفته ووضحته أنا لهم. فقد أُبعد قيادي إعمار من غير السعوديين وتم وضع عقد للميناء بدأ العمل فيه. وأُبقي المدير التنفيذي في منصبه بدلا من محاكمته.

وليس هذا سبب نفخي للصافرة، فكل تجاربي تحكي نفس السيناريو، فلا أدعى لقضية إلا لأيام قليلة على بُعد، وبسرية غالبا، ولا أطلع إلا على الأقل القليل. فأكشف الكثير في ساعات قليلة، وأقدم الحلول فلا يصبرون حتى أقدم المزيد، فيطيرون بها مدعين لها، ويقطعون اتصالاتهم بي. فقد اعتدت على هذا، فلم أكافأ قط رغم ما أقدمه من نفع -يقدر أحيانا بالمليارات، كحالة إعمار-، إلا بالتشويش حول اسمي واللمز وقلب الحقيقة لكي تُغطى بلادة من استغفل ويُغطى اختلاسهم لجهود غيرهم. فما بذلوا فيه شهورا من الجهد وأخذوا مقابله رواتب بالملايين، وما عاشوه اجتماعات ونقاشات، كشفت عوراها في لحظات، وأنا في ستار بكس بوسطن. وعندي الأمور موثقة حتى إيميلات تأنيب فريق العمل من الرجل الفاضل وإشادته بما فعلت. وقد حاول الرجل الفاضل إدخالي في الفريق، ولكن اعتقد أنه لم يدرك مدى حيل وطرق المهنيين عندنا في إبعاد أي وطني فطن سيكشف ضحالة مهنيتهم.

وإنما كشفت عن هذه الحالة اليوم، لأني اكتشفت الأسبوع الماضي فقط، أن المُستغفلين الذين اُستغفلوا أعوامًا من ماكينزي وإعمار سواء من الذين عملوا معهم أو الذين عملوا مع الجهة الرقابية الرسمية أصبحوا هم اليوم من يتولى شأن إحياء المدينة. فمن حديث عابر، الأسبوع الماضي، اكتشفت أنهم مازالوا كما هم مستغفلين ومهرجين. وأنهم بعدما ادعوا الفضل في اكتشاف الأمور، صاروا قادة المدينة ليقودوها إلى الوقوع في أفخاخ جديدة هي أعظم وأكبر من التي مرت. ومع ذلك قدمت لهم النصح والحلول بشأن الميناء، ليتجنبوا الوقوع في الفخاخ مرة أخرى. ولا أعتقد أنهم سينجحون، فمن يختلس الشيء لا يستطيع حل العقبات التي تواجهه عند التطبيق، ولا الدفاع عنه أمام المعارضين والمعرقلين.

وهم ليسوا ببدعا في مجتمعنا بل هذه هي مهنيتنا وهي ثقافتنا، وما حكاية اليوم إلا شاهد من عشرات الشواهد لما أشكوا منه، من سرقة قول أقوله أو رأي أطرحه، ثم يركض البليد به ليدعيه فإذا هو يسقط على وجهه. فهم قد ادعوا جهودي، وقادوا المدينة وهاهم يحثون الخطى للأفخاخ الأشد تمويها وخطرا.

وبما أن من قد تم استغفاله عن أبسط الأمور سابقا حتى تعطلت المدينة سابقا، قد ترقوا ليصبحوا قادتها اليوم، مع ما يتميزون به في قلة الأمانة في حفظ الحقوق وكثرة ادعائهم بما ليس لهم، وتشربهم لفن التهريج، وإبعادهم لكل فطن ومخلص، فهل يظن بعد ذلك إلا حتمية فشل المدن؟ وهل نفخ الصفارة هنا واجب وطني أم لا؟

http://www.al-jazirah.com/2016/20160901/lp8.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق