الجمعة، 20 يناير 2017

السعودية وإيران: دبلوماسية الحج!




محمد قواص – صحافي وكاتب سياسي لبناني

تفقد إيران معركة الحج وتدرك أن غياب حجاجها عن الموسم المقبل يفقدها مناسبة للفعل داخل أكبر منابر «الأمة». تتعامل السعودية مع الأمر من موقع مترفع لا يريد الخلط بين النزاع السياسي ومناسك الدين.
بين السعودية وإيران خصام منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979. وعلى مدى العقود التي تلت ذلك لم يخف دفق التوتر والشكوك بين البلدين، حتى أن قواعد السياسة الخارجية للرياض كما لطهران بنيت على أساس العداء المتبادل، والذي ما برح يتفاقم في سخونة هي أشبه بحرب حقيقية تأخذ أبعادا غير مباشرة موجعة.
يتنافس البلدان على التقدم لتمثيل الإسلام والمسلمين. كان في بال روح الله الخميني أن يحوّل بلاده إلى قبلة الدين الحنيف في العالم، وكان في باله أن النسخة التي يريدها للإسلام والتي على أساسها أطاح بحكم الشاه قابلة للتمدد والتصدير، تماما كما كان حال الأيديولوجيات التي راجت حول ماركسية تندفع بصيغ لينينية أو ماوية أو حتى ستالينية.
لم يكن إسلام الخميني بالضرورة شيعيا لو قُيّض له أن يخترق جدار السنّة، لكن مرشد الثورة الأول فهم حدود طموحاته داخل صفوف السواد الأعظم من المسلمين في العالم، وهو الذي حقق إنجازات في الوجدان العام للمنطقة، لا سيما في واجهته الفلسطينية الشاملة مرة، وفي تحالفه مع تيار الإسلام السياسي السنّي مرة أخرى.
تتأسس حكاية المملكة العربية السعودية الحديثة على إسلامية مصادرها ومنابعها ومنابرها ومآلاتها. سعت الرياض لتصدّر واجهة الإسلام والمسلمين في العالم وألّفت بين جناحي الحكم والدين قاعدة وفلسفة لسياق التوحيد الذي قاد إلى قيام المملكة بزعامة المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود.
تولّت السعودية الدفاع عن أمنها الإستراتيجي ضد التهديدات التي تعاظمت في ظل الحرب الباردة. كان على الرياض أن تواجه المدّ العروبي القومي، وذلك اليساري الشيوعي العبق الذي حملته مآلات خروج المستعمر من المنطقة. وكان على الرياض أن تواجه الـ«تسونامي» الإسلامي الثوري الإيراني الذي يطرق أبواب المملكة ويهزّ عرش تمثيلها للإسلام. تراجعت إيران إلى المنطلقات المذهبية لجمهوريتها الإسلامية. ثبتت المذهب الجعفري الاثني عشري روحا لدستور جمهورية الخميني وخامنئي من بعده. باتت العلاقة مع السنّة «الثوريين»، في نسخاتهم المتعددة وفي جنسياتهم المختلفة، علاقة بين أصل وفرع. وحين تتفاقم الأزمات يبقى الأصل ويسقط الفرع.
وهنتْ علاقة طهران مع جماعة الإخوان المسلمين وفروعها الفلسطينية (والمقطوعة أساسا مع فرعها السوري) منذ أن باتت مصالح طهران في دمشق لا تتحمل اجتهادا آخر. ولدوافع تتعلق بالدفاع عن الدين والمذهب، طردت الخرطوم وقبلها الرباط الحضور الدبلوماسي الإيراني من البلدين. في ذلك فهمت طهران أن للسيول الطموحة سدودا ترتفع حتى لو تأخر ظهورها.
ترجلت إيران عن عرش احتكار الإسلام والمسلمين، لتطل من شرفة تمثيل الشيعة في العالم. وكما اعتبرت النازية نفسها يوما أنها مسؤولة عن شؤون الناطقين بالألمانية في العالم، وبالتالي لا غرابة في ضم أي أرض يسكنها ألمان إلى داخل حدود الرايخ، فإن إيران تعتبر الشيعة في أي مكان امتدادا طبيعيا لنفوذها ومصالحها في العالم، معنية بمصيرهم وأمنهم وأحوالهم. وعليه فإن الحاكم في طهران نجح في العمل بدأب على أي وجود للشيعة في المنطقة، ونجح نسبيا في إقناع الشيعة، أنهم جزء من قوة الجمهورية الإسلامية ومن أذرعها في العالم.
على هذا الأساس تدرج طهران تدخلها في العراق والبحرين والسعودية ولبنان واليمن وباكستان. وعلى هذا الأساس تستخرج من جموع الشيعة هناك مقاتلين وفصائل وأحزابا تتحرك وفق أجندة طهران ومزاج قيادتها.
قد لا تجاهر السعودية بأنها ترعى حراك السنّة في المنطقة، ذلك أنها مازالت، على المستوى الرسمي على الأقل، تتحدث عن إسلام واحد جامع. بيد أن الصراع السني الشيعي بات الوجه الواضح لصراع الرياض مع طهران، وأن أدوات هذا الصراع في كافة ميادين الاحتكاك هي، بالنهاية، تنشط وفق شروط الخلاف المذهبي السياسي الحديث بين السنة والشيعة.
على أن السعودية تملك في مواجهة إيران فوقية دينية لا منازع لها. ترعى الرياض إدارة مناسك الحج، فيما ديار الحج المقدسة هي جزء لا يتجزأ من سيادة المملكة. أدركت إيران ذلك منذ إطلالات الخميني الأولى وسعت إلى تفخيخ مواسم الحج بمظاهرات داخل الحرم القدسي لقيت مواجهة سيادية من أصحاب الأرض، كما استنكارا من دول العالم الإسلامي، وبات الحج مناسبة للمناكفة، بوجوه وأساليب متعددة بين البلدين.
فجرت حادثة تدافع الحجاج عام 2015 (2300 ضحية بينهم 464 إيرانيا) صاعقا جديدا لتأجيج الصراع بين البلدين عندما شككت طهران بقدرة الرياض على التنظيم، إلا أن الاعتداء على المؤسسات الدبلوماسية السعودية في إيران أوائل 2016 احتجاجا على إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر، قاد إلى قطع الرياض لعلاقاتها الدبلوماسية مع طهران.
وعلى الرغم من جسامة الخلاف مع طهران، إلا أن الرياض لم تقطع الرابط الذي تفرضه عليها مسؤولياتها في تنظيم موسم الحج وأرسلت دعوة لطهران لإرسال بعثتها للموسم المقبل. تلكأت طهران أسبوعين قبل أن تقر بأنها تلقت الدعوة فعلا. لم تعط الرياض للأمر بعدا خاصا، بل إن وزير الحج أدرج الأمر في سياق سلسلة لقاءات مرتقبة مع أكثر من 80 بلدا، بينها إيران، لمناقشة الترتيبات المتعلقة بتنظيم الحج في الموسم المقبل.
سجل المراقبون تواطؤا مشتركا للبلدين في ملفين علنيين. مرر البلدان صفقة لإنعاش سوق النفط من خلال توصل منظمة أوبك في نوفمبر الماضي إلى اتفاق يراعي مصالح السعودية دون أن يضر بمصالح إيران، فيما تجمع الأوساط في لبنان على أن تقاطعا ما، بصيغة ما، بين الرياض وطهران أدى إلى إنهاء الشغور الرئاسي في لبنان وانتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية.
على ذلك تبدو ميادين الصراع بين البلدين في تحول وتذبذب وفق إيقاعات مقلقة لا يمكن اعتماد نتائجها في حسابات الأرباح والخسائر لكلا البلدين. قد يبدو موقع إيران محرجا في اليمن يقوّض إطلالتها على مضيق باب المندب، وقد يمكن تلمس ضبابية في موقع السعودية داخل سوريا لمصلحة احتكار تركي روسي إيراني للحل في هذا البلد، فيما يبقى العراق قيمة غير ثابتة في خرائط التقاسم الاستراتيجي بحيث لا تبدو مآلات معركة الموصل تصبّ في سلال إيران هناك.
لم تشارك إيران في موسم الحج العام الماضي، وهي سابقة في العقود الثلاث الأخيرة. تفقد إيران معركة الحج وتدرك أن غياب حجاجها عن الموسم المقبل يفقدها مناسبة للفعل داخل أكبر منابر «الأمة». تتعامل السعودية مع الأمر من موقع مترفع لا يريد الخلط بين النزاع السياسي ومناسك الدين، فحتى حين فشلت المفاوضات بين طهران والرياض العام الماضي في التوصل إلى اتفاق حول ترتيبات تنظيمية مشتركة خلال موسم الحج، سمحت السعودية بدخول الحجاج الإيرانيين القادمين من دول أخرى. وفي الفعل ورد الفعل، وفي إعلان الدعوة السعودية والتلكؤ الإيراني في الإقرار بها، تمرين مرتبك في دبلوماسية حج ملتبسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق