الأحد، 13 نوفمبر 2016

حماية المال العام:فلسفتها والياتها في المنظور التشريعي الاسلامى



د. صبري محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم

Sabri.m.khalil@hotmail.com

تعريف المال العام :  يمكن تعريف المال العام بأنه : ما تكون ملكيته للناس جميعاً أو لمجموعة منهم، ويكون حق الانتفاع منه لهم، دون أن يختص به أو يستغله أحد لنفسه (الدكتور محمد حمود/ تدابير الحماية الإدارية للمال العام ومكافحة الفسـاد: دراسة مقارنة).

فلسفه حماية المال العام في المنظور التشريعي الاسلامى: وتستند فلسفه حماية المال العام في المنظور التشريعي الاسلامى، إلى جمله من المفاهيم  القرانيه الكلية ، ذات التطبيقات الفقهية الجزئية ، ومن هذه المفاهيم:

أولا: إسناد ملكيه المال لله تعالى ، قال تعالى (واتوهم من مال الله الذي أتاكم) ،والمقصود بالملكية هنا ملكيه المنفعة بل ملكيه الرقبة اى حق التصرف المطلق في المال.

ثانيا: استخلاف الجماعة في الانتفاع بالمال ، أما الفرد فنائب ووكيل عن الجماعة في الانتفاع بالمال على وجه لا يتناقض مع مصلحتها ، قال تعالى (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه )، وهذا الاستخلاف العام يتحقق من خلال القواعد التالية :

ا/ أن للجماعة حق الانتفاع بمصادر الثروة الرئيسية دون الفرد، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ( الناس شركاء في ثلاثة الماء و الكلأ والنار ) (روه احمد وأبو داود).

ب/ تولى الدولة إدارة إنتاج هذه المصادر باعتبارها وكيل للجماعة ونائب عنها، قال عمر بن الخطاب  (رضي الله عنه) ( لو أن عناقا ” عنزا ” ذهب بشاطئ العراق لأخذ بها عمر يوم القيامة).

ج/ أما ما دون مصادر الثروة الرئيسية فان للجماعة أن تتركه حقا ينتفع به  الفرد ، بشرط أن لا يتعارض ذلك مع مصلحتها.

اتساقا مع المبادئ الكلية السابقة، فقد قرر العلماء عدد من القواعد ذات الصلة بفلسفة حماية المال في المنظور التشريعي الاسلامى ومنها:

مالك المال هو مواطني الدولة الاسلاميه : أن مالك المال العام – ملكيه انتفاع وليس ملكيه رقبه – هم مواطني الدولة الاسلاميه – وهو ما يتسق مع مبدأ أن المستخلف في الانتفاع بالمال – بالاصاله – هو الجماعة يقول ابن قدامة ( مال بيت المال مملوك للمسلمين) ( المغني (6/204)، ويقول أبو عبيد(ومال بيت المال ليس مال الخليفة بل فيء الله) )( الأموال (265) ويقول الشوكاني( بيت المال هو بيت مال المسلمين، وهم المستحقون له السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (3/333)..

المال العام يصرف في مصالح المسلمين: ان المال العام يصرف على مصالح المسلمين، قال ابن رجب( الخراج والجزية تصرف في المصالح العامة) الاستخراج لأحكام الخراج (459).

الحاكم نائب وليس مالك للمال العام : أن الحاكم “الخليفة – الأمير – ولى الأمر…”-وموظفيه- ليس مالك المال العام، بل هو نائب عن   جماعه المسلمين – المالك الاصلى له فى صرفه على الوجه الذي يحقق مصالحها، قال ابن العربي( الأمير.. نائب عن الجميع في جلب المنافع، ودفع المضار) (أحكام القرآن (2/903).وقال ابن تيمية( وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب.. ليسوا ملاكاً) السياسة الشرعية لابن تيمية (40) ، وقال ابن رجب( والإمام هو النائب لهم، والمجتهد في تعيين مصالحهم) الاستخراج لابن رجب (460)، وقال الدسوقي( الإمام.. إنما هو نائب عن المسلمين) (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/487).

آليات حماية المال العام في المنظور الاسلامى: كما أن هناك العديد من آليات حماية المال العام في المنظور التشريعي الاسلامى ، ومن هذه الآليات :

تحريم الاعتداء على المال العام  بأشكاله المختلفة :أهم آليات حماية المال العام في المنظور التشريعي الاسلامى هي تحريم الاعتداء على المال العام بأشكاله المختلفة  ،ومن هذه الأشكال:

الغلول:

تعريفه : الغلول لغة: قال الراغب(أصل الغلل تدرع الشيء وتوسطه، ومن ذلك الغلل للماء الجاري بين الشجر، والغلول وهو تدرع الخيانة، والغل: العداوة ..) ، أما اصطلاحا: فقال الكفوي( الغلول الخيانة في بيت مال أو زكاة أو غنيمة ).

أنواعه :وللفلول أنواع متعددة منها :ا/ الأخذ من الفيء والغنائم : ففي صحيح مسلم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ ، فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ )(رواه مسلم) . ب/الأخذ من الزكاة بغير حق : ففي سنن أبي داود عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعِيًا ثُمَّ قَالَ( انْطَلِقْ أَبَا مَسْعُودٍ وَلَا أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَجِيءُ وَعَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ) ..ج/ أخذ العمال والموظفين  الهدايا: قال الرسول (صلى الله عليه وسلم)(… فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ فَقَدْ بَلَّغْتُ )(رواه البخاري). د/ الاختلاس من الأموال العامة:  فعن عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ( مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمْنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(رواه مسلم” ).ه/الاستيلاء على الأراضي والعقارات بغير حق: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(متفق عليه).

عقوبته:وللغلول عقوبة اخرويه أشارت إليها العديد من النصوص ومنها  ما جاء في صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” أي على متاعه” رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا، وهذه العقوبة مترتبة على كون الفلول كبيره : قال ابن حجر: نقل النووي الإجماع على أن الغلول من الكبائر ، وقال الذهبي: الغلول من الغنيمة أو من بيت المال، أو من الزكاة من الكبائر، لما جاء في حديث مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- من قوله صلى الله عليه وسلم (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء … الحديث) . لذا امتنع الرسول (صلى الله عليه وسلم ) من الصلاة على الغال عقوبة له ، ونص الإمام أحمد على أنه لا يصلي الإمام على الغال .  .كما أن للفلول عقوبة دنيويه  وهي عقوبة تعزيزيه تضمنت: استراد ما غله  الغال،والجلد،والمنع من عطاء  الدولة. حيث كان أبو بكر الصديق( رضي الله عنه) إذا وجد الغلول عند رجل أخذ الرجل وجلده مائة ، وحلق رأسه ولحيته ، وأخذ ما كان في رحله من شيء إلا الحيوان ، وأحرق رحله ، ولم يأخذ – الغال – سهماً في المسلمين أبداً. وقال القرطبي: إذا غل الرجل في المغنم ووجد (ما غله) أخذ منه وأدب وعوقب بالتعزير،  واستعمل علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) أبن حجية الميمي على العراق, فاخذ من خراجها, فكتب إليه يستدعيه, فحضر فسأله عن المال فقال: ما أخذت شيئاً, فضربه بالدرة على وجهه.

قاعدة لا صدقه من غلول: وقد أشار الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى انه لا تقبل صدقه من  غلول ، فعن ابن عمر ، عن النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – : ( لا يقبلُ الله صلاةً بغير طهورٍ ، ولا صدقةً من غلولٍ ) وهذه القاعدة هي فرع من قاعدة اعم قررها الرسول (صلى الله عليه وسلم ) وهى انه لا تقبل صدقه من مال حرام.ففي الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال :( ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطَّيِّبَ- إلا أخذها الرحمان بيمينه ) ،اتساقا مع هذه النصوص قرر العلماء هاتين القاعدتين: سُئِلَ ابنُ عباس عمَّن كان على عمل ، فكان يَظلِمُ ويأخُذُ الحرام ، ثم تابَ ، فهو يحجُّ ويعتِق ويتصدَّق منه ، فقال : إنَّ الخبيث لا يُكَفِّرُ الخبيثَ .ويقرر ابن رجب أن المراد بالصدقة هنا أنْ يتصدَّقَ به الخائنُ أو الغاصبُ ونحوهما عن نفسه ، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يُتُقبَّلُ منه ، بمعنى : أنَّه لا يُؤجَرُ عليه ، بل يأثمُ بتصرفه في مال غيره بغير إذنه ، ولا يحصلُ للمالك بذلك أجرٌ ؛ لعدم قصده ونيته … ويقول ابن رجب أيضا ( ولو أخذ السلطانُ ، أو بعضُ نوابه من بيت المال ما لا يستحقه ، فتصدق منه أو أعتق ، أو بنى به مسجداً أو غيره مما ينتفع به الناسُ، فالمنقولُ عن ابنِ عمر أنَّه كالغاصبِ عن تميم بن سلمة قال : قال ابنُ عامر لعبد الله بن عمر : أرأيتَ هذا العقاب التي نُسَهِّلُها ، والعيون التي نُفَجِّرُها ، ألنا فيها أجرٌ ؟ فقال ابن عمر : أما علمتَ أنَّ خبيثاً لا يُكَفِّرُ خبيثاً قط ؟ ) ( جامع العلوم والحكم).وهذه  القاعدة تعنى أن المال المأخوذ من الغلول (كشكل من أشكال الاعتداء على المال العام ) حرام ، وانه لا يوجد اى تصرف  يغير هذه الصفة – بما فيما ذلك  صرفه في أوجه الخير – إلا رده إلى الدولة

الاختلاس:

تعريفه : الاختلاس والخلس في اللغة: أخذ الشيء مخادعة عن غفلة، أما اصطلاحا فهو الاستيلاء بغير حق على الأموال سواء كانت عامة أو خاصة محرم.

حكمه : والاختلاس محرم  ، وجميع أدلة تحريم السرقة تنطبق على الاختلاس.
عقوبته: وإذا كان العلماء قد اختلفوا في تطبيق العقوبة الحدية على المختلس (القطع ) إلى مذهبين ، إلا أنهم اتفقوا على  ضرورة تطبيق عقوبة تعذيريه على المختلس: رد المال المختلس والسجن… يقول ابن القيم (وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم وترك قطع المختلس، والمنتهب والغاصب، فمن تمام حكمة الشارع أيضا، فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن لصاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضا، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسراق، بخلاف المنتهب، والمختلس..وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس فليس كالسارق بل هو بالخائن أشبه، وأيضا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبا فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك، في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالبا فهو كالمنتهب وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب، والنكال، والسجن الطويل، والعقوبة بأخذ المال).

الرقابة والمحاسبة : من آليات حماية المال في المنظور التشريعي الاسلامى  الرقابة على موظفي الدولة ومحاسبتهم ، لمـا قدم معاذ بن جبل ( رضي الله عنه) من اليمن بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) قال له: ارفـع حسابك ؟ فقال معاذ (أحسابان حساب مع الله وحساب منك)، واستعمل علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) أبن حجية الميمي على العراق, فاخذ من خراجها, فكتب إليه يستدعيه, فحضر فسأله عن المال فقال: ما أخذت شيئاً, فضربه بالدرة على وجهه.

اختلاف العلماء هو على طبيعة عقوبة الاعتداء على المال العام وليس على مبدأ العقوبة : وهنا يجب الاشاره إلى العلماء اختلفوا فى تطبيق  أو عدم تطبيق العقوبة الحدية  للسرقة (القطع ) على جريمة الاعتداء على المال العام بأشكالها المختلفة (كالاختلاس والنهب والخيانة والسرقة من بيت المال والمال الموقوف ..) الى مذهبين ،وفيما يلي نعرض بشيء من التفصيل لهذين المذهبين:

المنتهب والخائن والمختلس :  : قال الحنفية والمالكية والشافعية : لا يقطع المنتهب لأنه مجاهر بفعله، والخائن لقصور في الحرز، والمختلس لأنه ليس بسارق والعرب أطلقت عليه أسما آخر غير اسم ( السارق ) والآية والأحاديث نصت على أن القطع على السارق فلا يقاس عليه غيره) .أما الحنابلة والإمام زفر فقالوا : أنه يجب القطع على المختلس والمنتهب والخائن لعدم اعتبارهم الحرز ولأنه نوع من السرقة . السرقة من بيت المال: ذهب الحنفية والحنابلة إلى عدم إقامة الحد على من سرق من بيت المال ، إذا كان السارق مسلما – غنيا كان أو فقيرا – لأن لكل مسلم حقا في بيت المال ، فيكون هذا الحق شبهة تدرأ الحد عنه .أما المالكية فقد أوجبوا إقامة الحد على السارق من بيت المال – وهو الرأي المرجوح عند الشافعية –  لعموم نص الآية التي تشير إلى عقوبة القطع للسارق، ولضعف الشبهة ، لأنه سرق مالا من حرز لا شبهة له فيه في عينه ، ولا حق له فيه قبل حاجته إليه . وفرق الشافعية بالنسبة للسرقة من بيت المال بين أنواع ثلاثة : أولا : إن كان المال محرزا لطائفة هو منها أو أحد أصوله أو فروعه منها ، فلا قطع لوجود الشبهة ، حتى ولو لم يكن لهم سهم مقدر، ثانيا : وإن كان المال محرزا لطائفة ليس هو ولا أحد أصوله أو فروعه منها ، وجب قطعه لعدم الشبهة الدارئة للحد ، ثالثا : وإن كان المال غير محرز لطائفة بعينها ، فالأصح : أنه إن كان له حق في المسروق، كمال المصالح ومال الصدقة وهو فقير أو في حكمه كالغارم والغازي والمؤلفة قلوبهم ، فلا قطع للشبهة ، وإن لم يكن له فيه حق قطع ، لانتفاء الشبهة

السرقة من المال الموقوف : ذهب الحنفية إلى عدم إقامة الحد على من سرق من المال الموقوف ، لأنه إن كان وقفا عاما فإنه يأخذ حكم بيت المال ، وإن كان وقفا خاصا على قوم محصورين فلعدم المالك حقيقة ، سواء كان السارق منهم أولا . وصرح بعضهم بأن السارق إذا لم يكن داخلا فيمن وقف المال عليهم فإنه يقطع بطلب متولي الوقف ، ووجهه : أن الوقف يبقى عندهم على ملك الواقف حقيقة ، وعند المالكية يقام الحد على من سرق من المال الموقوف ، سواء كان الوقف عاما أو خاصا ، سواء أكان السارق ممن وقف المال عليهم أم كان من غيرهم ، لأن تحريم بيع مال الوقف يقوي جانب الملك فيه .أما الشافعية فقد فرقوا بين الوقف العام فلا يقطع سارقه ، وبين الوقف الخاص ، فلا يقطع سارقه إن كان واحدا من أهله . وإن كان من غير أهله فعندهم آراء ثلاثة :أ – ظاهر المذهب : أنه يقطع ، لأن تحريم بيعه يقوي جانب الملك فيه .ب – لا يقطع السارق من هذا المال ، لأنه لا مالك له .ج – إن قيل : إن الموقوف مملوك الرقبة ، قطع سارقه . وإن قيل : إنها لا تملك ، فلا قطع، لأن ما لا يملك في حكم المباح وإن لم يستبح .ويذهب الحنابلة إلى عدم إقامة الحد على من يسرق من الوقف العام ، أو من يسرق من الوقف الخاص إذا كان واحدا من أهله ، لوجود شبهة تدرأ الحد عنه .أما من يسرق من مال الوقف الخاص ولم يكن من أهله ، ففي حكمه روايتان :أشهرهما : إقامة الحد عليه لبقاء الوقف على ملك الواقف .والأخرى : لا يقام عليه الحد ، لأن الوقف على قوم محصورين ليس له مالك حقيقة.

و هذا الخلاف الفقهي يدل على:

أولا:  عدم وجود إجماع بين العلماء ، على عدم تطبيق العقوبة الحدية على جريمة الاعتداء على المال العام ، بأشكالها المختلفة (كالاختلاس والنهب والخيانة والسرقة من بيت المال والمال الموقوف ..) -كما يقول البعض- فتطبيق العقوبة الحدية على هذه الجريمة هو احد هذين المذهبين.

ثانيا: أن هذا الخلاف  لا يتصل  بمبدأ العقوبة – حيث أنهم اتفقوا  على وجوب معاقبه المعتدى على المال العام سواء بعقوبه حديه أو تعزيزيه.بل يتصل بطبيعة العقوبة :هل هي تعذيريه ام حديه .

الأخذ معيار الكفاية : ومن هذه الآليات الأخذ بمعيار الكفائه في اختيار الموظفين، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم)( من استعمل رجلاً على عصابة ، وفيهم من أرضى الله منه، فقد خان الله ورسوله) ، وقال (صلى الله عليه وسلم) ( من أولى من أمر المسلمين شيئاً ، فأمر عليهم أحد محاباة ، فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم).

عدالة الأجور: ومن هذه آليات تطبيق مبدأ عدالة الأجور،روي أن أبو عبيدة تحدث يوماً مع عمر(رضي الله عنه) في استخدام الصحابة في العمل فقال ( أما إن فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة )، قال أبو يوسف في تفسيره ( إذا استعملتم علي شيء فابذل لهم العطاء والرزق لا يحتاجون).

إحصاء الثروة:  ومن هذه الآليات أن عمر بن الخطاب( رضي الله عنه) كان يقوم بإحصاء ثروة عماله قبل توليتهم أعمال الولايات. (دكتور عوف الكفراوي ,الرقابة المالية في الإسلام, دار النشر للجامعات, الإسكندرية)

منع أخذ الهدايا والهبات:  ومن هذه آليات النهى عن اخذ الموظف العام للهدايا والهبات، كتب عمر بن الخطاب إلى عماله:(أما بعد فإياكم والهدايا فإنها من الرشا). ورد عمر بن عبد العزيز على من قال له: الم يكن رسول الله يقبل الهدية ؟ بقوله: بلى, ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة .

 التمييز بين المال العام والمال الشخصي:  ومن هذه الآليات التمييز بين المال العام والمال الشخصي للموظف العام ، نقل أبو عبيد في (كتاب الأموال)عن عمر بن عبد العزيز انه كان يضيء شمعة من مال المسلمين لينظر في ضوئها في شئونهم، فإذا سئل عن أحواله الخاصة يطفئ الشمعة ويضيء غيرها، ويقول (كنت أضيء شمعة من مال المسلمين و أنا في مصالحهم، أما وأنتَ تريد أن تسأل عن أحوالي، فقد أضأت شمعة من مالي الخاص).

 إنشاء أجهزه لحماية المال العام: ومن هذه آليات إنشاء المسلمين أجهزه لحماية المال العام كديوان الحسبة وديوان المظالم…

خاتمه: حماية المال العام في المجتمعات المسلمة المعاصرة: وقد حدث تراجع في حماية المال العام أما في المجتمعات المسلمة المعاصرة نتيجة لأسباب متعددة منها :عدم التزام هذه المجتمعات بفلسفة واليات حماية المال العام في المنظور  التشريعي الاسلامى ، وشيوع الاستبداد ، وتطبيق هذه المجتمعات للنظام الاقتصادي الراسمالى، وما يترتب على هذا التطبيق من جعل العلاقة بين القطاع العام (الذي يمثل المال العام في هذه المجتمعات) والقطاع الخاص علاقة تنافس ، نتيجة لخضوع حركتهما لقانون المنافسة الحرة بقصد الحصول على ربح ، وهو ما يؤدى في نهاية الأمر إلى تصفية القطاع العام ، لذا فان حماية المال العام يجب أن تشمل ضمن آلياتها، وضع  ضوابط للمنافسة بين القطاعين العام والخاص ، ومن هذه الضوابط  دعم القطاع العام ، وتفعيل الرقابه فيه ، وتحفيز العاملين به ، وان يكون لكل قطاع مجالات محدده مقصورة عليه وحده .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق