بلا أدنى شك، أن القرآن الكريم نفسه عند المسلمين كافة، ومَن شكك في ذلك تنقصه الدِّراية إذا لم يكن قصد الكذب، وإنه الأول في التَّشريع وضبط التَّدين (الشَّيخ المظفر، عقائد الإمامية). فلنرَ ماذا ورد عن الشَّعائر: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ» (البَقرة: 158)، و«لَا تحلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الحرَامَ»(المائدة: 2)، و«ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ» (الحِج: 32)، «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ» (الحج: 36)، و«فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المشْعَرِ الحرَامِ» (البقرة: 198)، والمَشعر هو المزدلفة (الطَّبرسي، مجمع البيان). اقتبستُ عنوان المقال مِن الشَّيخ محمد علي اليعقوبي، ويُعد مِن مراجع المذهب بالعراق، وله واجهة سياسية.
تحدث اليعقوبي عمَّا يحصل في عاشوراء مِن إضافات يُرثى لحال العِراق بها، تدفع إليها مرجعية شيعية معروفة بتطرفها في العزاء الحسيني، وما يصاحبه من ممارسات، وصلت إلى حد الاستخفاف بالعقل، وقد ميَّز اليعقوبي ما يحصل بـ«المشاعر» وليست «الشَّعائر»، فالأخيرة حسمها القرآن بما يختص بعبادة الله في حج بيته.
في هذا العام، صرح بعض فقهاء المرجعية المذكورة بأن زيارة كربلاء تُعادل مئة حجة إلى مكة، وآخر صعدها إلى المليون، وهذا الكلام ليس روايةً إنما بالصَّوت والصُّورة، مما يبشر بخلق مذهب مشاكس داخل التَّشيع، مثلما انشطرت جماعات مِن قبل، وبسبب مغالاتها في آل البيت، صار البعض لا يعدهم مِن الإمامية، وقد يقود ذلك إلى تأسيس دين جديد، وبهذا نظم المعري (ت449هـ): «وقيل يجيء دينٌ غير هذا/ وأودى النَّاس بين غدٍ وأمسِ» (لزوم ما لا يلزم). كي نبتعد عن التعميم، وهو الجهل بعينه، أن علماء الإمامية، الأقدمين والمتأخرين كفروا «الغلاة» (الطُّوسي، كتاب الغيبة، والسِّيستاني، منهاج الصَّالحين).
أبرز مَن هاجم اليعقوبي على كلمته وبشدة مَن ارتبطت مصلحته بالمغالاة في المشاعر، فاعتبر أحد قراء المنبر أن كلَّ مَن يحاول عقلنة المشاعر ينزع إلى غلق مجالس الحسين، وعلى العراقيين أن يتحملوا كلَّ ما يحصل مِن خراب. قال: «لا تخلّوا العدو يستفيد، لا تخلّوا مجالس الحسين تنسد... حتى إذا أكو (توجد) نواقص اتحملوها! والله أحسن بحريتكم أنتم تقيمون شعائر الحُسين، ترى أكلكم (أقول لكم) يا جماعة إذا ما حمدنا الله وما شكرناه على هذه النِّعمة تروح (تُزال)». ثم يختم الشَّيخ بمنغصات العقل والضمير، وعلى حد عبارته أنه قال ذلك بتكليف من شيوخ عشائر وضباط جيش يسميهم «جنرالات»: «إذا رادود واحد مثل هيجي (هكذا) رادود امتنع مِن القراءة، تدرون الحسين في تلك الليلة يكون كئيباً وحزيناً، إذا مجلس مِن هذه المجالس أنسد، بيت مِن بيوت علي والحسين وفاطمة ينسد، ترضون أنتم»؟
ها قد عدنا إلى ما تناقلته الألسن، عند دخول القطار إلى العراق: «أتتركون حمير الله وتركبون الشَّمندفر»؟! سوى كان ذلك إشاعة أو حقيقة فها هو صار حقيقةً، يسمعها الملايين. ما للحُسين والكآبة بسبب ذلك الشَّاعر أو الرادود. هنا يحسمها الشَّيخ، وما تتصرف به الأحزاب والجماعات، أنهم شيدوا المدينة الفاضلة بانفلات المشاعر، فعلى حدِّ عبارته إنها الآن: «الدَّولة في كلِّ إمكانياتها في خدمة الحُسين، دولة أمير المؤمنين، دولة علي وفاطمة»!
لا يختلف هذا الخطاب عن زعيم حزب، هو الآخر يعد لقيام الدَّولة الفاضلة، عبر الموت، يقول: «المطلوب أن نكون طُلاب شهادة، كيف أن نأنس بالموت، كالإمام علي بن أبي طالب، وهذا بحاجة إلى عمل تربوي طويل» (خطاب عاشوراء). لم تُستغل قضيةٌ استغلالاً سياسياً وتجارياً كقضية الحُسين (قُتل61هـ)، استغلها حُكام وتُجار ورجال دين. لا يا حضرة الشَّيخ إن عقلنة المشاعر تعني لك: «إغلاق هذه الدُّكان» (آية الله مطهري، الملحمة الحُسينية). يقول ميرزا نوري (ت1902) في «اللؤلؤ والمرجان» على الإنسان: «أن يبكي مصائب الحُسين الجديدة، أن يبكي حُسيناً لكثرة الأكاذيب» (الملحمة الحُسينية). قالها النَّوري في القرن 19 فليأت اليوم وليرَ ما يرى!
ذكرني زميل الدراسة النَّجفي مكي نعمة، والبعد بيننا ربا على الأربعين عاماً، ببيت الجواهري (ت1997) كتبه على صفحته في «الفيسبوك»: «وحُزناً عليك بحبس النُّفوس/ على نهجك النَّيرِ المَهيعُ» (الحسين1947)، والمهيع البين والواضح. ويسأل الزَّميل عما يحدث عن المشاعر لا الشَّعائر: «لماذا لم يقل الجواهري: وحزناً عليك بلطم الصُّدور؟ وحزناً عليك بشج الرُّؤوس؟ أنتم أعيروني شجاعتكم وقولوا»؟!
أختم بالجواهري أيضاً، وهو يرى ما أصاب الحُسين، مِن قتلٍ آخر على يد مَن اتخذه شعاراً وقصد العبث بالعقول: «أقول لأقوامٍ مضوا في مُصابه/ يسومونه التَّحريف حتى تغيَّرا/ دعوا روعة التَّاريخ تأخذْ مَحلَّها/ ولا تـُجهدوا آياته أن تحوَّرا» (عشوراء: 1935). يا قُراء المنابر لقد فاض الجهل، وتقاسمتم الخراب: السَّاسة يخربون الحرث وأنتم النَّسل، وتقيمون ديكتاتورية الجهل في تهييج المشاعر وتحجيم الشَّعائر.
* نقلا عن "الاتحاد"