الجمعة، 19 أغسطس 2016

موسوعة لجواد علي توثق لحضارة الجزيرة


يوسف زيدان: « تاريخ العرب قبل الإسلام» لا نظير له في المكتبة العربية

تاريخ النشر: 20/08/2016

الشارقة: محمد أبو عرب

يبدو أن يوسف زيدان الباحث التراثي والمؤرخ وخريج الفلسفة الإسلامية ومستشار مكتبة الإسكندرية السابق، وعلى الرغم مما قدمه من طروحات في التراث العربي، وما شغل من مناصب، وما يكتبه من بحوث تجاوزت الستين، المطلع بما يكفي على المنجز الفذ الذي قدمه المؤرخ العراقي الكبير جواد علي، 1907-1987، في أسفاره الضخمة «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» 10 مجلدات يقع كل منها في أكثر من 600 صفحة، عندما أطلق عباراته غير المسؤولة في مهرجان «التويزا» المغربي، كان قد نسي إشادته السابقة بما كتبه علي حول تاريخ العرب وحضارتهم قبل الإسلام. يقول زيدان في كتاب «اللاهوت العربي» الطبعة الثانية دار الشروق، القاهرة 2010 ص 35 واصفاً كتاب جواد علي: «وهو كتاب فريد في بابه، لا نكاد نجد له نظيراً في المكتبة العربية».

ما يقدمه المؤرخ جواد علي في «المفصل» يعد إجابة وافية وفائضة، تكفي ليظل زيدان صامتاً عن هذا النوع من الثرثرة الثقافية الغنائية في مجملها، فعلي يتوقف عند أعلام من الخطباء، واللغويين، والمعلمين، والساردين، والفنانين، وغيرهم من المشتغلين في الحقول الإبداعية والمعرفية، كانوا حاضرين قبل الإسلام، وشكلوا قاعدة متينة لظهور ثقافة الإسلام والعرب لاحقاً في مجمل البلدان العربية.

يأتي ذلك في الوقت الذي تقف فيه الثقافة العربية أمام واحدة من الإشكاليات الراسخة التي لم يتم تجاوزها حتى اليوم، والمتمثلة في «التدوين»، وغيابه عن الجاهلية، ونشأته في الإسلام، وتحديداً في القرن الثاني الهجري، والمفارقة أن زيدان يعلم ذلك كله ويأتي ليطلب من أحد الجمهور الحاضر لندوته: «أعطني اسم عالم في اللغة العربية خرج من الجزيرة ».

توقف جواد علي عند مفاصل مهمة في رسم معالم الحياة الثقافية للعرب، سواء في عرضه لتاريخ الحكمة، والخطابة، والنحو، والفلسفة، والنحت، وغيرها من أشكال الرسوخ الحضاري، فيورد في بحثه لسيرة التعليم عند العرب في الجاهلية ما نصه: «ذكر بعض أهل الأخبار أسماء جماعة ذكروا أنهم كانوا من المعلمين في الجاهلية وكانوا من أصحاب الوجاهة والمكانة، منهم على سبيل المثال: «بشر بن عبدالملك السكوني»، أخو «أكيدر» صاحب «دومة الجندل»، و«سفيان بن أمية بن عبد شمس»، و«أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة»، و«عمرو بن زرارة بن عدس بن زيد»، وقد كان يُسمى «الكاتب، و«غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي» وهو مخضرم، مما يدل على وجود المدارس والتعليم عند الجاهليين. وقد ورد أن الرسول أمر «عبدالله» واسمه الحكم بن سعيد بن العاص بن أمية، بأن يعلم في الكتّاب بالمدينة. كما ورد أن «جفينة»، وهو من نصارى الحيرة، جاء المدينة فصار يعلم الكتابة بها. وورد في رواية أن «علي بن أبي طالب» اختلف إلى الكتّاب، فتعلم الكتابة به وله ذؤابة وهو ابن أربع عشرة سنة. وورد أن رجلًا نزل بوادي القرى، وعلّم الخط بها. وورد أن غلاماً جاء «يبكي إلى أبيه، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث!! يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبداً»، وإذا صح هذا الخبر، نكون قد عثرنا على كلمة «المعلم» المفهوم منها في الوقت الحاضر في الأيام الأولى من ظهور الإسلام.

يشير هذا التاريخ إلى وجود أحد المفاهيم الأساسية لتكون الفعل المعرفي في مجتمع الجزيرة العربية، فوجود معلم، يعني وجود مجتمع يبحث عن المعرفة ويربي أجياله للوصول إليها، ووجود معلم يعني وجود مناهج وحقول معرفية يبحث فيها المعلمون ويصلون بها إلى الطلبة.

يتأكد ذلك بالوقوف عند تاريخ علم النحو في العربية، والغزارة المعرفية التي عرفت عن مصدر النحو ومرجعه في العربية الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فما يقدمه جواد علي في رواية تاريخ النحو يؤكد أن الإمام علي -رضي الله عليه وأرضاه- كان عالماً فذاً في العربية، إذ يكتب: «قيل - أطلق على النحو نحواً- لقول علي بن أبي طالب بعدما علم الأسود الاسم والفعل وأبواباً من العربية: انح هذا النحو. أو لأن أبا الأسود لما وضع ما وضع في النحو وعرضه على «علي»، قال «علي» له: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت! ولذلك سمي النحو نحواً. ولكننا نجد «الجاحظ» يشير إلى وجود اللفظة في أيام «عمر»، إذ يقول: «وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا النحو كما تعلَّمون السنن والفرائض». ويشبه هذا الخبر خبراً آخر نسب إليه أيضاً، فقد ذكروا أنه قال: «تعلموا إعراب القرآن تعلمون حفظه»، وأنه قال: «تعلموا الفرائض والسنن واللحن تعلمون القرآن». ويظهر أن الكتاب قد صحفوا في خبر «عمر»، فخلطوا بين«اللَّحن» و«النحو»، وعلى تلك فإن بين اللفظين صلة. وإذا صح خبر «الجاحظ»، واعتبرنا لفظة النحو لفظة صحيحة غير محرفة، دلت على وجود هذه التسمية علماً لهذا العلم في أيامه، وقبل أيامه، أي في أيام الجاهليين.

ويستكمل جواد علي: «والجمهور من أهل الرواية يرون أن النحو علمٌ ظهر في الإسلام. ظهر بظهور الحاجة الماسة إليه لضبط اللسان وصيانته من الخطأ، ولتعليم الأعاجم نمط الكلام بالعربية. ورجع أكثرهم مصدره وأساسه إلى الإمام علي بن أبي طالب، ويقولون إن أبا الأسود الدؤلي «69 ه» أخذ هذا العلم عنه. وإن الإمام ألقى عليه شيئاً من أصول النحو. فاستأذن التلميذ أستاذه أن يصنع نحو ما صنع، فأذن له به، فسمى ذلك نحواً. وذكر بعضهم أن الإمام دفع إلى أبي الأسود رقعة مكتوباً فيها: الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى. واعلم أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر. ثم وضع أبو الأسود بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام، إلى أن وصل إلى باب إن وأخواتها ما خلا «لكن»، فلما عرضها على عليٍّأمره بضم «لكن» إليها، وكلما وضع باباً من أبواب النحو عرضه عليه. يشير هذا الواقع التاريخي، إلى أن علوم اللغة لم تظهر ترفاً أو فائضاً بحثياً، وإنما جاءت استجابة لمتغيرات الحالة الاجتماعية التي أفضت إلى دخول الكثير من غير العرب في الإسلام وبالتالي، حاجتهم إلى تعليم العربية، بوصفها لغة القرآن، الأمر الذي يجعل عرب الجزيرة -قويمي اللسان في الأصل- ليسوا بحاجة لتعلم العربية ومعرفة قوانينها، وبالتالي إنتاج علماء وفقهاء ومنظرين فيها في تلك الحقبة من الزمن، وهو ما عاد وتحقق ما أن تداخلت اللهجات وتنقل عرب الجزيرة في مختلف البلاد العربية، فسكنوا بلاد الشام والعراق وغيرهما من الأقطار العربية.

ليس ذلك وحده ما يؤكد تكرس الحالة المعرفية في الجزيرة العربية، وتشكيلها حالة متوالدة أنتجت مجتمع مكة في الإسلام، وقدمت إلى العالم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.يكتب جواد علي في السياق ذاته، متوقفاً عند مفهوم النثر، وتاريخ حضوره عند العرب، وعجز التدوين في حفظ كل ذلك الإرث الثقافي، فيقول: «بين أيدينا خطب طويلة ومتوسطة وقصيرة، نسبها الرواة إلى خطباء جاهليين، زعموا أنهم كانوا في أيامهم آية في الفصاحة والبلاغة والبيان، وأساطير وقصص زعم أهل الأخبار أنها أخبار صحيحة وروايات مروية، وأصول منافرات ومفاخرات ومعاتبات ومشاتمات، زعموا أنها جرت في الجاهلية، وانتقلت أصولها بنصها وفصها وحروفها وكلمها من رواتها إلى الإسلاميين، فدوّنت في كتبهم، كما رووا حكماً وأمثالاً وأقوالاً، زعموا أنها لحكماء من أهل الجاهلية حفظها الناس حفظاً، ورووها رواية رجلاً عن رجل، وجيلاً عن جيل، حتى وصلت مرحلة التدوين. وكل هذا المسجل الذي نتحدث عنه، هو من مدوّنات أهل الإسلام، ليس فيه من مدوّنات أهل الجاهلية أي شيء».

ويستكمل جواد علي حديثه في موضع آخر بالقول: «أما النثر المنسوب إلى العرب الذين عاشوا قبيل الإسلام، أو أدركوا الإسلام، فالصحيح فيه أقل من المصنوع، خاصة نصوص الخطب والحكم والمواعظ، والقصص والأيام، والوفادات والخطب الطويلة، لأن من المستحيل على الذاكرة، حفظ الكلام المنثور بالحروف والكلمات حفظ أشرطة التسجيل له أو للغناء أو الموسيقى، مهما وهب الله تلك الذاكرة من قوة في قدرة الأخذ والحفظ. ثم هي إذا حفظته اليوم، فلا بد وأن تتعثر به غداً، ثم يزداد تعثرها به بعد ذلك. هذا رسول الله يذكر «قس بن ساعدة »، فيقول: «رحم الله قُسًّا كأني أنظر إليه على جمل أورق، تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه».

تفتح تلك الرواية الباب كاملاً على أعلام أفذاذ في العربية، كانوا عباقرة في الفصاحة والحكمة والبلاغة، إلا أن التدوين لم يلحق منهم شيئاً، وليس ذلك وحسب، وإنما تشير تلك المرويات إلى أجناس إبداعية كتابية بديعة، فما يرد في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لنص نثري سمعه لقس بن ساعدة ، يفتح الباب على تلك النصوص، ويؤكد نبوغها واكتمالها للحد الذي يقول الرسول؛ الحامل لأبلغ النصوص في العربية (القرآن الكريم) يقول عما سمعه «كلام له حلاوة».



- See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/baa5b163-9c95-4ecb-8b95-dd287fd5bedb#sthash.HrpesHJp.dpuf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق