الاثنين، 29 فبراير 2016

هل يمكن إنقاذ اتفاق التجارة الحرة عبر الأطلسي قبل فوات الأوان؟!


الأوروبيون باتوا حريصين على إبلاغ الأميركيين برغبتهم في التوحد من أجل تولي الريادة كمحددين للمقاييس المعيارية في العالم، مخافة أن يتحولوا إلى «متلقين للمعايير» في ظل نظام اقتصادي يخضع لسيطرة عمالقة ناشئين.
   رغم أنه عصر السياسات المتواضعة، فإن أميركا والاتحاد الأوروبي لديهما فرصة مهمة لتحقيق حدث ضخم ومؤثر: إطلاق تحالف عبر الأطلسي يستطيع بلمسة واحدة تحرير ثلث تجارة العالم. ففي وقت تُطبق فيه القوى الناشئة بسرعة على الغرب المضطرب، فإن إقامة منطقة تجارة حرة تشمل أميركا والاتحاد الأوروبي ستفتح الباب أمام المزيد من الآفاق. وإذا تحقق ذلك بصورة صحيحة فقد يفضي إلى نموذج اقتصادي عبر الأطلسي يعلي من شأن الانفتاح والأسواق الحرة وحرية الأفراد وحكم القانون بقدر يفوق الرؤى المنغلقة لرأسمالية الدولة.
يواجه هذا التحالف في الوقت الراهن متاعب، وقد ابتلي بضيق الأفق والشكوك المتبادلة، وهذا في حد ذاته ضرب من الجنون، لأن معاهدة التجارة الحرة لم يسبق لها أن حظيت بمثل هذا الدعم في المستويات القيادية العليا في أوروبا، وكذلك في الجناح الغربي من البيت الأبيض. ورغم ذلك، فإن المؤيدين يعلمون أيضاً أن الوقت قصير، وهذه النافذة السياسية المفتوحة قد تنغلق خلال 18 شهراً فقط، كما يقول مسؤول أوروبي يعمل في قلب هذه العملية... بينما يرى مسؤول أميركي رفيع أن العملية يجب أن تتم بسلاسة "وعلى وجه السرعة".

«خطوط حمراء تجارية»!

تنطوي كل المخاطر على ضيق الأفق والتفكير؛ وقد أرسلت حكومات الاتحاد الأوروبي في الآونة الأخيرة مجموعة من المسؤولين التجاريين إلى بروكسل للمشاركة في أول اجتماع يتعلق بتلك المبادرة وعرضها على الولايات المتحدة. ودعا الموفدون من جنوب وشرق أوروبا، بقيادة فرنسية، إلى وضع  قائمة طويلة تشتمل على خطوط حمراء تضمنت البنود المعتادة: "الزراعة" و"الخدمات العامة" وحقوق الملكية للمحتوى السمعي – البصري.
ولا شك أن تلك القائمة كان من شأنها إخافة فريق أوباما- ليس بسبب عدم نقاط وجوانب تستوجب اللوم لدى الأميركيين- الذين لديهم قائمة مطولة من الحواجز المفروضة على قطاع واسع يبدأ من الخدمات المالية وصولاً إلى خدمات ركاب الطائرات- لكن لأن الخوف الحقيقي يتجسد في أن مجرد بدء أوروبا المباحثات بوضع خطوطها الحمراء، فإن ذلك من شأنه إثارة المتشككين من الشركاء التجاريين الأميركيين الذين سيعمدون من جانبهم إلى وضع الخطوط الحمراء الخاصة بهم.
والأكثر من ذلك، حسبما يقول أحد العارفين ببواطن الأمور، يتمثل بأن شريحة البيروقراطيين التجاريين الأميركيين تتسم بضيق الأفق والتشاؤم: معاهدة تجارية مع كولومبيا هي ذروة طموح تلك الفئة، هذا بخلاف أن هناك الكونغرس الذي يستوجب القلق منه أيضاً.

فرص مرضية

في الشهر الماضي سأل أعضاء اللجنة المالية في مجلس الشيوخ الأميركي الممثل التجاري الأميركي لدى الاتحاد الأوربي، ديميتريوس مارانتس، عن مدى استيعاب الاتحاد الأوروبي للمنتجات الأميركية من الإيثانول والديزل الحيوي ولحوم البقر والخنازير والدواجن المنتجة في ولاياتهم المعنية، وأبدى أحد أعضاء مجلس الشيوخ من ديلاور وفرة إنتاج ولايته من الدواجن قائلاً "لكل شخص في ولايتي يوجد 300 دجاجة". وتطرق رئيس مجلس الشيوخ السيناتور ماكس بوكس من مونتانا إلى الأنظمة الأوروبية التي اعتبرها "لا تعتمد على أسس علمية".
تثير مثل تلك النزاعات العديد من الجوانب والمشكلات التي يصعب حلها، بيد أن الجائزة المرتقبة حال التغلب عليها وإبرام الاتفاق التجاري عبر الأطلسي ستكون كبيرة ومجزية. وفي ضوء التدفقات التجارية الواسعة عبر جانبي المحيط الأطلسي فإن أي تطور ولو زهيد في تحرير التجارة بين الجانبين سيوفر فرصاً ومكافآت مرضية ومجزية. والأهم من ذلك أن هذه قد تكون الفرصة الأخيرة والمثلى بالنسبة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لوضع قوانين ليبرالية تحكم أداء الاقتصاد العالمي. يتعين على القادة أن يتحركوا قدما في هذا المسار، غير أن المأساة تكمن في ضرورة أن تكون الصفقة التي سيتم التوصل إليها عملية ومثمرة وقابلة للتنفيذ.

تكنوقراط أوروبا

بالنسبة إلى باراك أوباما فهو يتوق إلى مغادرة الحكم وسط نمو اقتصادي قوي، وتمثل مسألة تعزيز التجارة الخارجية بوجه عام فرصة نادرة للقيام بعمل ما، ويقول مسؤولون أميركيون إن أوباما مستعد اليوم للقيام بمجازفات، وقد استخدم في خطابه عن حالة الاتحاد هذه السنة للإعلان عن محادثات بشأن "التجارة عبر الأطلسي والشراكة في مجال الاستثمار" (TTIP)، إضافة إلى العمل من أجل إبرام اتفاقية تجارية مع آسيا.
وقد احتاج أوباما إلى وقت كي يقتنع بجدية موقف الجانب الأوروبي، ومضت بريطانيا ودول الشمال والمفوضية الأوروبية سنوات طوال في حث الرئيس الأميركي على المضي في طريق التجارة الحرة، غير أن حماس تلك الأطراف ليست من الأمور الموثوق فيها في واشنطن. ويقال إن مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل أسهمت بشكل كبير في إقناع الرئيس أوباما، كما أن اتصالات أميركا مع العواصم الأخرى أكدت وجود فرصة كبيرة. ويبدو أن الشريحة الناقدة من الزعماء الأوروبيين الغارقين في الديون العامة الذين أدركوا أن النمو وحده يستطيع إنقاذهم، أصبحوا على استعداد للتوصل إلى اتفاق- حتى في فرنسا. والنظرة في مراكز القيادة وصناعة القرار تنطوي على أهمية: فالمحادثات التجارية للاتحاد الأوروبي هي مسألة تكنوقراطية تدار من قبل أوروبيين في مستويات قيادية بارزة ويتم إقرار نتائجها من قبل الزعماء في اجتماعات القمة.

إرث عديم الجدوى

تتسم السياسة التجارية الأميركية بقدر كبير من الديمقراطية الانتهازية، في ظل وجود قدرات للكونغرس على إحباط الطموحات الرئاسية، ومع ذلك هناك أسباب تدعو إلى الأمل في إمكان نيل موافقة الكونغرس في هذا الصدد.
تتمتع التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بنطاق رحب وواسع للغاية وتقدر بحوالي تريليون دولار سنوياً- وهي متوازنة بين الجانبين بشكل تقريبي. ونظراً لأن مقاييس العمل والبيئة عالية في الاتحاد الأوروبي قد يصعب على اليساريين الديمقراطيين وحلفائهم في نقابات العمال التذمر من مسألة تأثر العمالة الأميركية وتراجعها. ويميل الجمهوريون إلى اعتبار أوروبا مثل إرث عديم الجدوى، لكن حلفاءهم في الأنشطة التجارية والشركات والمؤسسات يعلمون أن الملايين من وظائف الأميركيين تعتمد على الأنشطة التجارية والاستثمارية مع الاتحاد الأوروبي.
يقول مسؤولون بارزون أوروبيون وأميركيون إن الجانبين تقاربا منذ آخر مرة جرت فيها محاولة إبرام معاهدة تجارية بينهما، لكن أثيرت مشاكل بينهما مثلما حدث بين شركتي "إيرباص" و"بوينغ" ذات مرة حين اندلعت بينهما معركة ضارية تجارية في قطاع صناعة الطائرات، وهو الأمر الذي أدى إلى حدوث مواجهة حامية الوطيس بين الأوروبيين والأميركيين بشأن المساعدات الحكومية والوصول إلى الأسواق.

العمالقة قادمون

وليس في وسع أي من الجانبين الأوروبي والأميركي الآن تحمل أعباء تقديم مساعدات سخية لشركات عملاقة تتصارع سوياً... تقوم شركة "إيرباص" ببناء مصنع في ألاباما، وتشعر الشركتان بقدر كبير من القلق إزاء محاولاتهما للدخول إلى الأسواق الناشئة، كما تقاربت أساليب التنظيم في كلتا الشركتين، ويتحدث المسؤولون في الولايات المتحدة اليوم عن تحليلات للأعباء والفوائد ذات الطابع "الإنساني" والفعال، ويتحدث الأوروبيون بانفعال عن الثمن الذي يمكن أن يدفعوه قد بسبب المبالغة في الحذر.
وفي نهاية المطاف، يأتي في المشهد ذلك العملاق الآسيوي... الصين- فالأوروبيون باتوا حريصين على إبلاغ الأميركيين برغبتهم في التوحد من أجل تولي الريادة كمحددين للمقاييس المعيارية في العالم، مخافة أن يتحولوا إلى "متلقين للمعايير" في ظل نظام اقتصادي يخضع لسيطرة عمالقة ناشئين.
ويرى آخرون أن هناك درجة من درجات الاندفاع تحدث على جانبي الأطلسي، فقد طلبت تركيا من الولايات المتحدة مساعدتها في الحصول على مقعد في "اتفاق التجارة عبر الأطلسي والشراكة الاستثمارية" (TTIP)، لكن من دون جدوى. كما أن البرازيل بدت فجأة أكثر اهتماماً بتوقيع معاهدة تجارية إقليمية مع أوروبا. غير أن الجانب المحوري في الطرف الأميركي يبقى "متفائل بحذر" فقط في إمكان التوصل إلى اتفاق... لكن حينما يتمكن الجانبان من توجيه دفعة قوية، فإن معاهدة تجارية طموحة عبر الأطلسي ستخرج إلى النور وسيتم إنقاذها قبل فوات الأوان. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق