الثلاثاء، 28 يوليو 2015

أخطاء في فهم حديث :" تغزون جزيرة العرب"

نصوص الكتاب والسنة هما المعين الثري الذي لا ينضب في معرفة الأحكام الشرعية والأخبار الغيبية؛ وهما النصوص المعصومة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
وهذه النصوص الشرعية يحوم حولها خطران عظيمان:
الخطر الأول: صحة الثبوت، لكن القرآن الكريم وما أجمعت عليه الأمة من صحيح السنة بمعزل عن هذه الخطورة، فقد تكفل الله تعالى بحفظ كتابه من التبديل؛ إذ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وكذلك صحيح السنة محفوظة بحفظ الله لكتابه لكونها المبينة والمفسرة له، وقد هيأ الله تعالى لحمل السنة وحفظها والذود عن حياضها رجالاً أفذاذاً شهد لهم المخالف قبل الموافق بسعة الحفظ وسلامة الضبط بما يبهر العقول.
الخطر الثاني: هو صحة الاستدلال والفهم، وقد اعتنى علماء الإسلام منذ بداية تدوين العلم في العصور الأولى إلى تدوين ضبط فهم نصوص الوحي، فلم يتركوا مجالا للتلاعب بهذه النصوص الشريفة، وقعَّدوا القواعد التي يسير عليها المستنبط.
وأكثر ما ضر المسلمين في تاريخهم هو الفهم السقيم لهذه النصوص المباركة، وتفسيرها التفسير الباطل، وليُّ أعناقها لتلائم كل فرقة وما تهواه من المعتقدات الباطلة والأفكار المنحرفة.
ومن الطرق الفاسدة في الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة قطعها عن مثيلاتها من النصوص وبترها عنها؛ بحيث يكون كل نص قطعة بمفرده لا علاقة له بالنصوص الأخرى، وهذه الطريقة المنكرة قد استهجنها العلماء المعتبرون في الأمة، وهي أقرب إلى الزندقة منها إلى الإسلام، ولأنه ما من فرقة من الفرق المخالفة للإسلام إلا وتتشبث بنص من الوحي تدعي أنها تنطلق منه وتعتصم به؛ وهذه الطريقة أشبه باستدلال فساق الملة حينما استدل أحدهم بأن الوعيد بالويل لم يرد في حق الثمالى وإنما ورد في حق المصلين حين قال تعالى: {فويل للمصلين} وأنشد قائلاً:
دع المساجد للعباد تعمرها***وطف بنا حول خمار ليسقينا
ما قال ربك ويل للأولى سكروا***بل قال ربك ويل للمصلينا.
ومن أمثلة هذه الطريقة الفاسدة ما يستدل به من لا علم عنده بحديث رواه مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَزْوَةٍ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ، فَوَافَقُوهُ عِنْدَ أَكَمَةٍ، فَإِنَّهُمْ لَقِيَامٌ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ، قَالَ: فَقَالَتْ لِي نَفْسِي: ائْتِهِمْ فَقُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ لَا يَغْتَالُونَهُ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ: لَعَلَّهُ نَجِيٌّ مَعَهُمْ، فَأَتَيْتُهُمْ فَقُمْتُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، قَالَ: فَحَفِظْتُ مِنْهُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، أَعُدُّهُنَّ فِي يَدِي، قَالَ: «تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللهُ». ويستنتج بفهمه القاصر بأن هذا الحديث دليل على وجوب غزو جزيرة العرب واستباحة القتل فيها في العصور المتأخرة.
وهذا الفهم الخاطئ من هذا المستدل ناتج عن عدم الفقه في نصوص الشريعة وطرق الاستدلال وكيفية ذلك، وبتر بقية نصوص الكتاب والسنة المتعلقة بهذه القضية. ولمناقشة هذا الفهم السقيم نقف معه هذه الوقفات العجلى:
أن هذا الفهم لهذا النص النبوي لم يفهمه أحد من العلماء المعتبرين عبر القرون المتتالية، وهذا دليل على عدم جادته وصوابيته، لأن النصوص الشرعية قد تكلم عليها العلماء وأسهبوا في معانيها، فلما لم يوجد عالم معتبر في الأمة عبر قرونها تكلم بهذا الفهم دلّ على أنه معنى محدث لا دليل عليه.
الحديث دل على أن الفتح يكون لجزيرة العرب، وفي ذلك الوقت الذي كان فيه الخطاب النبوي لم يستتب الإسلام بعد في جزيرة العرب كلها، وقد تم نشر الإسلام فيها بعد ذلك واستقر فيها؛ وخاصة بعد حروب الردة، فأصبحت الجزيرة قلعة من قلاع الإسلام.
لم يقم أحد من ولاة المسلمين أو قادتهم عبر الفتوحات الإسلامية بالتوجه للجزيرة لفتحها بناء على هذا الفهم المعوج؛ بل توجهت الفتوحات كلها خارج الجزيرة لعلمهم بأن الجزيرة هي قاعدة الإسلام.
هذا الفهم الخاطئ يناقض الأدلة التي دلت على أن الجزيرة وما تحويه من الحرمين الشريفين أصبحت دار إسلام إلى أبد الدهر، بل هي موئل الإيمان؛ وموطن المصلين الركع السجود؛ كما روى مسلم في صحيحه عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا»، وروى مسلم أيضاً عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم”.
هذا الفهم لو كان هو المراد من النص النبوي الكريم لما فات الصحب الكرام ولا التابعين بإحسان تطبيقه، ولكان جهادهم لفتح الجزيرة بعد أن كانت دار إسلام وإيمان هو همهم الأول، تنفيذا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقاً لقوله، فلما لم يكن ذلك دل على أن الحديث لا يفهم منه هذا الفهم السقيم.
وبالجملة فإن هذا الاستدلال هو الذي جرَّأ بعض الأغمار لاستباحة الدم الحرام في جزيرة العرب؛ لظنهم بأن الجزيرة هي أولى بالفتح من غيرها، متعدين في ذلك الحرمات البينة والواضحة في تحريم دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم.
——————————-
خاص بالسكينة : محمد بن عبداالسلام الأنصاري 


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/shobhat/27896.html#ixzz3hCYoHTof

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق