الجمعة، 29 مايو 2015

دُعَاة الديمقراطية

دُعَاة الديمقراطية

  
10-11-2012
  

القوة الناعمة 

ترجمة: عزّة حسون – فريق الترجمة – خارج السرب 

Evangelists of Democracy | The National Interest

nationalinterest.org


يكاد لا يختلف برنامج ترويج الديمقراطية بشيء عن حركة حقوق الإنسان فكلاهما مشروع راديكالي يسعى نحو التغيير الاجتماعي و السياسي. أمّا مناصري برنامج ترويج الديمقراطية لا يقرّون أو بالأحرى لا يستطيعون الإقرار بالسمة الأيدلوجية أو الثورية لمشروعهم. و بناء على هذا يجب فهم ترويج الديمقراطية على أنه من ملحقات الليبرالية المعاصرة- التي تعتبر الأيدلوجية المعاصرة و الوحيدة التي تنفي فكرة أنها أيدلوجية بشكل أو بآخر. و بدقة أكبر تمثل الديمقراطية الشكل النهائي للتنظيم البشري خاصة بعد أن تراجعت الأيديولوجيات الأخرى, فهي الوضع الأخلاقي الافتراضي القادم في المستقبل. عند سماع نشطاء ترويج الديمقراطية في الغرب  يتكلمون عن عملهم في ” تغيير” أنظمة الدول من أنظمة استبدادية أو فاشية إلى أنظمة ليبرالية و ديمقراطية فهم فقط يستعجلون القادم من كل بدٍ. يستقي جورج سوروس(George Soros)1صيغته عن الديمقراطية من كارل بوبر (Karl Popper)2, التي تخدم الدعامة الأيدلوجية للكينونة المرّوجة للديمقراطية التي يدعو إليها و المتمثلة بمؤسسات المجتمع المنفتح (Open Society Foundations).تتمحور هذه الصيغة حول “إطلاق المجتمعات المنغلقة و جعل المجتمعات المنفتحة أكثر قابلية للتطبيق و ترويج نموذج تفكير نقدي”. ويتضح بهذا الخصوص أنّ التاريخ يتجه باتجاه واحد- نحو المزيد من الحرية و المزيد من الانفتاح و المزيد من الديمقراطية. و بالتالي فمن الأفضل فهم الديمقراطية على أنها احتواء للمنطلق الرئيسي التي تقوم عليه مقالة فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) عام 1989 و التي أتت بعنوان“نهاية التاريخ؟“ حيث ادعى فوكوياما أن انتصار الغرب في الحرب الباردة شكّل “نهاية الثورة الأيدلوجية البشرية و بداية عولمة الديمقراطية الليبرالية الغربية كصيغة نهائية للحكم البشري“.

   هذا التأكيد المغرور على الانفتاح و على الأفكار الجديدة و رفض المجتمعات اللاديمقراطية و “المنغلقة” على أساس أنها- كما اشتكى سوروس مرّة- ” تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة” مثير للسخرية. ففي النهاية تدعي هذه الرؤية الغربية المعاصرة ذات الصبغة الديمقراطية الرأسمالية و التي تشكل أساس حركات ترويج الديمقراطية و حقوق الإنسان احتكارها للحقيقة الاجتماعية و الأخلاقية و السياسية. و يستغرق سوروس في فكرة إدراكه المبّكر أنّ الشيوعية مزيفة  وهي مجرّد “دوغما”, و لكن ما الشيء الذي قد يكون مانوياً (Manichaean) أو أكثر بدائيةً فلسفياً من فكرة تقسيم العالم أجمعه إلى مجتمعات منفتحة و منغلقة؟  فما هو الأمر الأكثر عقائدية من ادعاء سوروس الجريء بأن هزيمة الشيوعية “أسست أرضية لمجتمع عالمي منفتح”؟ و في هذا الشأن هل هناك أمر أكثر  ضحالة من تأكيد فوكوياما على أن الأسئلة المهمة و الباقية في حضرة التاريخ هي متى و تحت أي ظروف ستحدث عولمة الرأسمالية الليبرالية الغربية.
   قد تتطلب هذه الادعاءات استخدام لغة علمانية من أجل تبرير النتيجة القائلة بأن المجتمعات المنفتحة أفضل بكثير من تلك المنغلقة و ذلك-هنا نقتبس مباشرة من سوروس- “لأنه و في أي مجتمع منفتح أن يفكر كل مواطن بنفسه هو ضرورة و ليس اختيار”. هذا الكلام يتشابه بشكل غريب مع ادعاء شهير إبان الحرب مفاده أن الله إلى جانب المرء و مع الفكرة الماركسية القائلة أن انتصار الشيوعية أمر حتمي. فقد تبجح نيكيتا كروشيكيف (Nikita Khrushchev )- زعيم الحزب الشيوعي في روسيا آنذاك- في اجتماع للسفراء الغربيين عام 1956 في وارسو بأنه “سواء أحببتم أو لم تحبوا فالتاريخ إلى جانبنا”. حينها أضاف العبارة الشهيرة,”سندفنكم“. كان هذا حقاً التعبير الأكثر فحشاً عن الحتمية التاريخية. و لكن هذا ليس أسوأ من تأكيد فوكوياما على أنّ النظام السياسي الشرعي و الوحيد هو دولة نامية يسودها القانون و حكومة مسؤولة و تتكون من ” توازن ثابت”. و كما لاحظ جون غري (John Gray )3 بدقة أن هذه الرؤية للمستقبل بالكاد تتعدى كونها “نسخة مثالية عن نظام الحكم الأمريكي”.
   إذا سواء اتخذ هذا الادعاء شكل عولمة سوروس و بوبر أو شكلاً من أشكال الهيغيلية الجديدة التي يعبر عنها فوكوياما أو عقيدةّ لبرنامج ترويج الديمقراطية, فهو ادعاء يحكمه اعتقاد أن الغرب لم يكن يعيد صناعة العالم وفق صورته بل هذه الصورة لمجتمع عالمي منفتح كانت الوحيدة التي بقيت سليمة. مقارنة بهذا الكلام يظهر كروشيكيف بمظهر شخص واقعي من وجهة فلسفية.
   ماذا نقول إذاً عن ترويج الديمقراطية الذي يدفع هؤلاء الناس العمليين إلى مثل هذا التطرف؟ ما الذي كان يعنيه الرئيس بيل كلينتون عندما تنبأ في خطاب توليه المنصب للمرة الثانية عام 1997 “بأنّ أعظم ديمقراطية عالمية ستقود إلى عالم من الديمقراطيات”؟ و هل حقاً اعتقدت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في خطابها عام 2012 بأن البلدان المنغلقة على “التغيير و على الأفكار و الثقافات و المعتقدات التي تختلف عن أفكارهم و ثقافتهم و معتقداتهم سيجدون أنفسهم في عالمنا الالكتروني متخلفين عن البقية؟”. بعيدا عن الطوباوية الالكترونية لوادي السيلكون (Silicon Valley) و قدر الغليان المشتعل الخاص بجورج سوروس, هل حقا اعتقدت كلينتون بأن العالم الغربي الليبرالي و الرأسمالي و الغارق في أزمة اقتصادية شديدة, و في ظل حقيقة أن الولايات المتحدة الآن الدولة الأكثر مديونية في التاريخ الإنساني, أنها كانت ترتكز على أرضية صلبة عندما حذّرت الصينيين من مغبة عدم تبني فكرة المجتمع المنفتح و بأنهم إن لم يفعلوا سينتهون في مزبلة التاريخ؟.
    بعيداً عن استخدام مصطلحات شبه دينية يصعب حقاً شرح السبب الذي يدفع شخصاً ذكياً و واقعياً مثل الوزيرة كلينتون للتفوه بأمر قاطع و الأدلة الدامغة عليه قليلة و بوجود الكثير من المعطيات الواضحة التي تناقض حجتها. ربما هنا تكمن النقطة الأساسية, فالنظرة السائدة عن المشروع الأمريكي منذ تأسيسه تصبغها صفة غامضة و كأنه رسالة سماوية  يميزها إيمان بالدور الفادي للولايات المتحدة في الشؤون العالمية , هذا بالإضافة إلى أنّ الحماسة التبشيرية لإعادة صناعة العالم على صورة أمريكا ليست حقاً فعل استكبار و تعالي لكنه تلبية للواجب الأخلاقي. و بالنظر إلى الأمر من منطلق الاستثنائية الأمريكية و أن الولايات المتحدة هي المدينة المتألقة على قمة الهضبة و الأمل الأخير و الأفضل للجنس البشري لن تكون للمعطيات الاقتصادية و لا التوجهات الجيوسياسية أي قيمة موازية بالمقارنة. إن كان الله إلى جانبنا فسيكون التاريخ إلى جانبنا أيضاً+, و إن فكرت بطريقة مغايرة فأنت ببساطة تخون المشروع الأمريكي. و لذلك فإن خطاب الوزيرة كلينتون يتفق تماما مع وعد”سندفنكم” الشهير.
     قد تبدو لغة خطاب كلينتون معاصرة و خاصة عندما دمجت التكنولوجيا بالتحرر, لكن الخطاب بالكاد أضاف الكثير. و يعود الاعتقاد بأن ترويج الديمقراطية عامل لابدّ منه في السياسة الخارجية الأمريكية إلى عهد وودرو ويلسون (Woodrow Wilson)4 و بأشواط مهمة إلى عهد ابراهام لينكولن (Abraham Lincoln). هذا و يؤكد الصحفي جون. إل. أو سوليفان (John L. O’Sullivan)5 الذي أتى بمصطلح  “قدرٌ جليّ” (Manifest Destiny) في عام 1845, بأن الرسالة التاريخية للولايات المتحدة هي “تحقيق الكرامة الأخلاقية و خلاص الإنسان على الأرض”.  لكن هذا لا يعني أن دور ترويج الديمقراطية لم يشهد تغييراً جذرياً على مدى المائة عام الماضية, على العكس, فقد أطلق ويلسون وعداً بأن العالم “سيصبح أكثر أماناً لتتحقق فيه الديمقراطية” و ذلك بمجرد دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى. و بعد جيل كامل أتى وعد  فرانكلين.دي.روزفلت ((Franklin D. Roosevelt أنه متى هُزمت الديكتاتوريات في أوربا و آسيا (لم يذكر روزفلت شيئاً عن أنها ديكتاتوريات الاستعمار البريطاني و الفرنسي) سيقوم النظام العالمي على أساس ما دعاه روزفلت “بالحريّات الأربع”. بمعنى آخر, بناء الديمقراطية و كأنها مسيرة ثابتة أكثر من كونها نهاية مطلوبة للحرب. فقد استخدمت الولايات المتحدة فكرة صناعة الديمقراطية عبر الاحتلال العسكري في حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي. لم تكن هذه الفكرة هدفاً راقياً بقدر ما كان أسلوباً من بين مجموعة من الأساليب غير العسكرية للقتال في تلك الحرب.
 في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي انطلق مشروع ترويج الديمقراطية على نحو متواضع و بشكل كبير أخذ شكل التمويل غير المباشر من وكالة الاستخبارات المركزية للمشاريع الثقافية عبر مؤسسات خيرية مثل مؤسسة فورد (Ford Foundation) – بدون معرفة بالكتّاب و الفنانين المشاركين في هذه المشاريع الثقافية عادةً. و تتضمن هذه المشاريع الثقافية تأسيس مجلات راقية و مرموقة كمجلة انكاونتر(Encounter) في بريطانيا و مجلة دير مونت (Der Monat) في ألمانيا و مجلة بريفيز (Preuves) في فرنسا. و هناك أيضاً تأسيس مجلس الحرية الثقافية (Congress for Cultural Freedom) و المصمم لتوجيه قوى اليسار المعادية للشيوعية و الاتحاد السوفييتي ضد النخبة الثقافية الأوربية الغربية مثل بيكاسو و جان بول سارتر و غيرهم ممن استمر بالتعاطف مع الشيوعية أو اتخذ موقفاً محايداً. و كان الرسم بالتحديد ساحة معركة مهمة. حيث رَعت وكالة الاستخبارات المركزية  خلال خمسينيات القرن الماضي معارض لفنانين تجريديين و تعبيريين أمريكيين  أهمهم الرسام فيليم دي كوننغ (Willem de Kooning)6 و جاكسون بولوك (Jackson Pollock)7 و روبرت موذرويل ((Robert Motherwel8.و انخرط الفنان الشاب نيلسون روكفيلر (Nelson Rockefeller)9 تماماً في اللعبة و هو الذي ساعد في تنظيم العديد من هذه المعارض في معرض الفنون الحديثة((Museum of Modern Art  في مدينة نيويورك. فقد أطلق على حركة التعبيرية المجرًدة اسم “الرّسم الاستثماري الحر”. و يستحضر توم برادن (Tom Braden)10– رئيس قسم المنظمات الدولية التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية قوله  في ذلك الوقت:
 أردنا توحيد كل الكتّاب و الموسيقيين و الفنانين لنبرهن للعالم أن الغرب و الولايات المتحدة مخلصان لحرية التعبير و الانجاز الفكري بدون أي عوائق قاسية على ما عليك كتابته و ما تقوله و ما تفعله و ما ترسمه كما كان يحدث في الاتحاد السوفييتي. أعتقد أن هذا القسم من أفضل أقسام الوكالة.
  لم يكن برادن يتبجح آنذاك و قد يكون مصطلح “القوة الناعمة” الذي أتى به جوزيف ناي (Joseph Nye)11عام 1990 كمصطلح يختزل الطرق التي تعيد تقييمها القوة الأمريكية لمواجهة التحديات في عالم ما بعد الحرب الباردة. و يظهر مشروع ترويج الديمقراطية كمثال تقليدي على القوة الناعمة قبل نصف قرن على اصطلاحه من قبل ناي, أمّا نجاحه في تحويل المد الثقافي ليس اختراعاً أتت به مخيلة اليسار المتشددة. هذا طبعاً لا يجب أن يكون مفاجئاً, فهكذا جرت الحرب الباردة تماماَ, حيث احتل العمل العسكري المتواصل المناطق التي تقع عند أطراف الإمبراطوريتان الأمريكية و السوفيتية من بين هذه الأطراف: كوبا و كوريا  فيتنام و أمريكا الوسطى و الكونغو و القرن الإفريقي. و بدلاً من العمل العسكري كانت الحرب بشكل كبير عبارة عن تنافس اقتصادي و سعي عالمي وراء القلوب و العقول, و محاولة للإجابة عن السؤال الأهم حول ما إن كانت الدول الناهضة من عالم ما بعد الاستعمار ستتبنى الشيوعية أو الرأسمالية الليبرالية. إذا كيف سيتقاتل طرفان متنازعان في حرب لا يُطلق أحد فيها النار على أحد سوى بغير استخدام القوة الناعمة أو- لمن يحب الصياغات الأقوى- باستخدام الأفكار و الأدب و الفن؟ و نستعيد هنا كلمات كلوزفيتز(Clausewitz)12 بأنه و في هذا السياق تظهر الثقافة كاستمرارية للحرب و لكن بأساليب أخرى.
    مهما بدا العديد من الكتّاب و الفنانين مرعوبين من كونهم و بلا معرفة سابقة المستفيدين من هبات وكالة الاستخبارات المركزية (بعضهم كان خائفاً حقاً و آخرون ادعوا ذلك)  يبقى هذا الشكل من ترويج الديمقراطية التكتيك الأقوى في الحرب الباردة. ففي سبعينات و ثمانينات القرن الماضي و بينما تحولت جاذبية الشيوعية على الطريقة السوفيتية إلى شيء من الماضي تماماً, ركزّ المشروع الأمريكي لترويج الديمقراطية بشكل متزايد على دعم المنشقين السياسيين و الثقافيين في بلدان حلف وارسو. و نجح هذا المشروع نجاحاً كبيراً فمن أهم المنشقين في الكتلة الشرقية فاسليف هيفال (Vaclav Havel)13 و شاعر روسيا الكبير جوزيف برودسكاي (Joseph Brodsky)14 و العديد غيرهم ممن كانوا ممتنين كثيراً. ربما لم “يخلق” المنشقون أحداث عام 1989 و لكنهم كانوا- كما يقول المصطلح  الماركسي- في الطليعة, و ساعد الدعم الأمريكي هيفال على الاستمرار حتى أثبت التاريخ صحة حدسه و الذي وضعه لاحقاً بجملته التالية: “تبدو الأعمدة الاستبدادية في كثير من الأحيان متماسكة بقدر تماسك البيوت المصنوعة من ورق اللعب و تتساقط بسرعة تماماً مثلما تتساقط هذه البيوت أيضاً”. و أظهرت التجربة الأوربية بأن ترويج الديمقراطية قد يساهم حقاً بانتصارات الولايات المتحدة كانتصارها في الحرب الباردة.
 سيكون فشل الولايات المتحدة في استخدام إستراتيجية ترويج الديمقراطية أمراً غبياً إلى أبعد حد. فقد وصف رولاند ريغان (Ronald Reagan ) بداية حقبة الثمانينات بالحقبة القائدة في “عالم الثورة الديمقراطية” و صاغت إدارته عام 1983 هذه الجهود مع مؤسسة المنح الوطنية لدعم الديمقراطية (NED)15 و منظماتها الأربعة الملحقة بها و هي المعهد الجمهوري الدولي (International Republican Institute)  و المعهد الديمقراطي الوطني (National Democratic Institute (NDI)) و مركز الاستثمار الخاص و المركز الأمريكي للتضامن العمالي العالمي, و هكذا شاع استخدام مصطلح ” ترويج الديمقراطية”, لكن ما من شيء في هذا يدعو للاحترام على وجه الخصوص. في الحقيقة, كانت بعض آثار مشروع ترويج الديمقراطية مؤذية بشكل لا يدعو للشك و أخرى غيرها كانت دنيئة. لكن الحرب عمل دنيء و لهذا تبدو أسباب الدعم المستمر لجهود ترويج الديمقراطية الأمريكية مفهومة آنذاك عندما بدأ المشروع و لا تزال كذلك إلى الآن.
   بغض النظر عن هذا و بعد عقدين على انهيار الاتحاد السوفيتي يدور السؤال اليوم حول غاية كل من الوكالات و الجمعيات الخيرية و المنظمات الحكومية الأمريكية, على وجه الخصوص الوكالة الأمريكية للتنمية العالمية (USAID) و مؤسسة المنح الوطنية لدعم الديمقراطية (NED) و الشركات الملحقة بها و منظمة فريدم هاوس (Freedom House) و مؤسسات المجتمع المنفتح الخاصة بجورج سوروس, من المثابرة على التوسع في مشروع ترويج الديمقراطية, و قد كان هذا التوسع ضخماً بحق. فمن بين الأهداف الإستراتيجية المعلنة للوكالة الأمريكية للتنمية العالمية (USAID) كان تخصيصها لمبلغ قدره 17 مليار دولار أمريكي في عام 2011 ( أو ما يعادل  55 بالمائة من ميزانية وزارة الخارجية و ميزانية المساعدة الخارجية للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)) للهدف الثالث من هذه الأهداف السبعة و المعروف بتحقيق “ازدياد و استدامة كل درجات ازدهار و استقرار البلدان الديمقراطية من خلال الترويج لنظام حكم فعّال و مسؤول و ديمقراطي خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان و النمو المستدام الواسع و الصحة”.
    من الواضح بمكان بأن كمّاً كبيراً من هذا المال ذهب إلى التنمية الاقتصادية و الصحة العالمية و التغذية,  مع ذلك فإن تخصيص قسم كبير من المال لترويج الديمقراطية و الجهود التي قدمتها مركزية وزارات الخارجية في إدارات كلينتون و جورج دبليو بوش و أوباما إلى السياسية الأمريكية الخارجية تظهر الثقة التي لا تتزعزع في أهمية الترويج للديمقراطية  في واشنطن, على الرغم من المعاناة الناجمة عن هذا المظهر في المجالات الحربية “للحرب الطويلة” و المشاكل التي انبثقت عن أجندة جورج دبليو بوش و التي دعاها بـ “أجندة الحرية العالمية“.
    مع ذلك لا يجب أخذ هذا الإيمان و الالتزام على أنه سلبي, فمن المنطقي أن نسأل و نحن في عام 2012 عن إمكانية وصف ترويج الديمقراطية بشكل شرعي كعقيدة متماسكة تماماً, و نتساءل إن كانت أبداً قادرة على التعافي من الصدمات التي تلقتها منذ الأيام الأولى لسقوط جدار برلين. قد يعتقد معظم صناع السياسة و نشطاء حقوق الإنسان الأمريكيين بأن التاريخ إلى جانبهم, و لكن و للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي تلقى محاولاتهم مقاومة جديّة ليس فقط من دول استعادت عافيتها كروسيا و قوى ناهضة كالصين و لكن أيضاً من دول في القسم الجنوبي من الكرة الأرضية. بالنسبة لهذه الدول فإن ادعاءات مرّوجي الديمقراطية تبدو كرايات أخلاقية مناسبة لتحقيق مصالح الولايات المتحدة أكثر منها جهود نزيهة تحت مسمى الصالح العام العالمي.
    بالرغم من هذا كلّه استخدمت إدارة جورج دبليو بوش أجندة الديمقراطية لتبرير غزوها للعراق و الملاحقة العالمية التي أطلقتها في حربها الطويلة ضد الجهاديين. و يبدو بأن الولايات المتحدة لم تكن النموذج المثالي للمعايير الديمقراطية التي تعظ بها و هذا أثار التساؤل حول حسن نواياها الأخلاقية من المشروع بأكمله, و قد برز هذا التشكيك في داخل الولايات المتحدة ذاتها. لكن و قبل أن يدرك صناع السياسة الأميركيين تماماً التهديد المحتمل لهذه التناقضات تحول مشروع الترويج للديمقراطية إلى ضحية نجاحه. هناك قول مأثور في عالم الأعمال يقول بأن أعظم خطر قد تواجهه أي شركة ناجحة هو خطر التوسع بشكل سريع, و هذا ما حدث مع مشروع الترويج للديمقراطية و لأسباب تبدو مقنعة آنذاك و غبية حالياً. و قد نظر العديد من الأذكياء من بينهم صناع السياسة في واشنطن إلى انهيار الاتحاد السوفييتي- على الرغم من أن انهياره كان محتماً كما هو مفترض غالباً- على أنه تأكيد على نزاهة أجندة الديمقراطية. و قد استمر هذا الفصل الغبي اللاحق لمرحلة ما بعد الحرب الباردة خلال إدارة كلينتون و استمر- و يا للعجب- حتى اليوم كما هو واضح في المواقف السياسية لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون و في التشديد الدائم على ترويج الديمقراطية داخل منظمة (USAID).
    للحق كيف كان لنصر الولايات المتحدة في الحرب الباردة أن يشوه تصورات الناس؟ ألم يكن هذه النصر و بروز الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية تأكيداً على صوابية تركيبتها الاجتماعية؟ من الممكن أن يكون هذا صحيحاً لولا كارثة العراق و مستنقع أفغانستان. في الحين ذاته و بالرغم من القدرة العسكرية الأمريكية التي لا توازيها أخرى, عجزت الولايات المتحدة عن قولبة (modeling) الأحداث وفق أهواءها. بالإضافة إلى هذا فإن الخلل الوظيفي في النظام السياسي الأميركي- الذي بدأ في عهد جورج دبليو بوش و تعاظم في عهد باراك أوباما- قوّض الإيمان بتفرّد الديمقراطية الأمريكية عالمياً. و لكن على الرغم من التصريحات المتهورة للوزيرة كلينتون فإن نجاح الرأسمالية الديكتاتورية في الصين, خاصة عندما نضعها في مقارنة مع الأزمة المالية التي تعصف بالغرب, يثير الشكوك حول امتلاك الولايات المتحدة الأدوات و السلطة الأخلاقية اللازمة للانخراط بالترويج للديمقراطية على الصعيد العالمي.
   لكن في تسعينيات القرن الماضي كان هذا كله في المستقبل, و كان منطقياً  تماماً آنذاك الاعتقاد بأن كل الأمم ستتحول قريباً إلى ديمقراطيات ليبرالية و بأن مهمة الولايات المتحدة هي إيصالهم إلى هناك بأسرع ما يمكن. و من أجل تسهيل هذه الغاية ركز مشروع ترويج الديمقراطية  في تسعينات القرن الماضي على ما يدعى غالباً بمبادرات الانتقال- و هو توجيه الدول الشيوعية سابقاً و الديكتاتوريات الأقل عقائدية في القسم الجنوبي من الكرة الأرضية نحو أرض فوكوياما الموعودة. و إن رفضت الأنظمة المتوارثة الخضوع تسارع حينها الولايات المتحدة و بعض المجموعات الخاصة ( بشكل خاص مؤسسات سوروس في جورجيا) إلى دعم و تمويل شخصيات معارضة تسعى إلى قلب الأنظمة. و بما لا يدعو للدهشة و في عهد دكتاتورية ناجحة اقتصادياً كالصين أو دكتاتورية مؤثرة سياسياً كروسيا بقيادة بوتين, أصبح يُنظر إلى فكرة واشنطن عن انتقال الديمقراطية على أنها “تغيير أنظمة”. يصعب التأكد من عدم تجاهل الولايات المتحدة لهذه الاعتبارات أو أنها فقط كانت واثقة من امتلاكها للسوط الجيوسياسي و لم تحتاج بذلك إلى الانتباه لهذه الاعتبارات. قد تكون الولايات المتحدة مقتنعة ببساطة و يظهر هذا في التصريحات الواثقة لساسة و نشطاء ترويج الديمقراطية الأمريكيين, بأن روسيا و الصين ستنضم إلى الرئيس كلينتون في سعيه لخلق “عالم من الديمقراطيات”.
   هذا الاستكبار ليس بغريب و لا مثير للدهشة إن عرفنا أنّ مرحلة التسعينات في الولايات المتحدة كانت مرحلة التوهج العقائدي. و يُنظر إلى فترة رئاسة كلينتون على أنها مرحلة تتصف بالكياسة النسبية ( هذا إن تركنا جانباً أزمة الاتهام الظنّي- قضية كلينتون-لوينسكي[1]). و لكن التوهج العقائدي غذّى فكرة أننا جميعاً نشهد ولادة عالم حيث كل الناس على هذا الكوكب ستعيش في ظل نظام سياسي و اقتصادي واحد. و تحولت الديمقراطية إلى ما يشبه الإيمان أكثر منها كنظام, و في الترويج لها كانت الحكومات و المنظمات العالمية تؤدي دور المكافئ الدنيوي لعمل الله. إن قوّة المقارنة بين دعاة الديمقراطية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة و بين الإرساليات التبشيرية المسيحية تكمن في ثقة كل من الإرساليات بالمسيحية و دعاة الديمقراطية بالرأسمالية الديمقراطية على أنهما-المسيحية و الرأسمالية الديمقراطية- الحل و ليس فقط حلاً من الحلول.
   لم تكن المسيحية “فكرة ما” حول أُناس عقلانيين قد يختلفون, فلقد نظرت الإرساليات التبشيرية إلى المسيحية على أنها تقديم للحقيقة و للنقاء و الوضوح. و قد لا يؤمن حقاً مناصرو صناعة الديمقراطية- التي تُعتبر بحد ذاتها إحدى فروع حركة حقوق الإنسان الدولية- بأنهم ينشرون كلمة الله, و لكن ليس من العبث أن العديد من الناس داخل و خارج حركة حقوق الإنسان الدولية يصفون الديمقراطية بالدين الدنيوي. و أثار هذا الخليط من أفكار فوكوياما و مرصد حقوق الإنسان و مؤسسات سوروس في حركة ترويج الديمقراطية ثقة أخلاقية شديدة إلى درجة أن أي عضو في منظمة وايت فاذرز(White Fathers)في كينيا أو الإرساليات الاسكتلندية التي تبشر بالمسيحية المشيخية (Presbyterian) في الصين يرى نفسه عرضة للخطأ في يتعلق بالتفاصيل و لكنه ليس على خطأ أبداً فيما يتعلق بالعقيدة الأساسية.
   سيرفض العديد من دعاة الديمقراطية المعاصرين هذه المقارنة, و ليس ذلك على أقل تقدير بسبب البيان الدعائي لـ NDI الموجود على موقعها الالكتروني. فالمنظمة لا تدّعي بأنها تفرض حلولاً على الشركاء المحليين و لا تؤمن بإمكانية نسخ نظام ديمقراطي معين في كل مكان. بل على العكس فإن الـ ( NDI) تتقاسم الخبرات و تقدم مجموعة من الخيارات حتى يتسنى للقادة النشطاء اختيار الممارسات و المؤسسات التي قد تتناسب مع ظروفهم.
   لكن هناك شيء في هذا التأكيد أبعد من أن يكون مجرد خدعة صغيرة. في حقيقة الأمر هو شيء من بقايا نكتة أرجنتينية قديمة حول الديكتاتور خوان بيرون(Juan Perón) الذي لاحظ عندما عَلِم بقضية سياسية مريرة و خلافية شنّجت البلد بأن كل القوى المعارضة, بغض النظر عن خلافاتها, كانوا معه. لا يمكن التقليل من شأن تأكيد((NDI بأنها لا تحمل معها خلاصة أي نظام ديمقراطية لأن هذا يعني أمراً من اثنين. أولاً, قد تعني أن القادة سيقبلون أي قرار من أي بلد لاختيار أي نظام ديكتاتوري- كالنظام في الصين- و في هذه الحالة لا يبدون التزاماً بترويج الديمقراطية. ثانياً, هذا قد يعني قولهم في سياق الرأسمالية الديمقراطية و حقوق الملكية و المعايير القانونية للأسلوب الغربي و ما إلى هنالك أنهم لا يملكون الرغبة بأخذ القرار حول أي نسخة من الديمقراطية تناسب بلدهم. يمكننا إذا في هذه الحالة إعادة صياغة الأمر بجملة دورثي باركر حول الدرجة العاطفية التي تبلغها أودري هيبورن في تمثليها…. الجميع منفتح على سلسة كاملة من الاحتمالات ( احتمالات من الألف إلى الباء).
   و عندما تقول الـ (NDI) بأنها فوق السياسة فهي تعني حقاً أنها فوق السياسة الحزبية 16. و لكن هذا يرقى إلى مرتبة الادعاء بأن الديمقراطية- التي قد تكون إطاراً للسياسة- ليست سياسية بامتياز و هو ادعاء سخيف فلسفياً مهما بدا ملائماً.
   على أي حال, سواء أدرك أو لم يدرك العاملون في الترويج للديمقراطية داخل و خارج الحكومة فإن ادعاء الإيثار و الغيرية لا صدى له عند الكثيرين خارج الولايات المتحدة. و من بين أكثر الصيحات الملفتة التي انتشرت في العقد الماضي التي لا تتذكرها واشنطن كثيراً هي نهضة العديد من الدول في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية كرواندا و إثيوبيا و سيريلانكا. في ثمانينات و تسعينيات القرن الماضي كان بإمكان مجموعات مستقلة مثل “أطباء بلا حدود” و “أنقذوا الأطفال” و ” لجنة الإغاثة الدولية” أن تعمل بحرية تامة في أي مكان تراه مناسباً. لكن الآن و حتى في مناطق الحروب و خلال أزمات اللاجئين للسلطات المحلية  الكلمة الأولى. إذاً و في الحين الذي تشتكي فيه واشنطن من القادة الشعبيين مثل هوغو شافيز أو من القادة الأوتوقراطيين مثل فلاديمير بوتين لمقاومتهم جهود ترويج الديمقراطية الخارجية على أساس أن هذه النشاطات تهدد سلطتهم. لقد انتهى الزمن الذي كان فيه ترويج الديمقراطية بقيادة واشنطن يتمتع بقدرة كبيرة على توجيه الدفة.
   و أكبر مثال على هذه الصفعة ما حدث في التاسع من أيلول و ذلك عندما طلبت روسيا من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) أن تعلق عملياتها و برامجها في روسيا الاتحادية بشكل دائم خلال عشرة أيام. كان تبرير نظام بوتين لقرار الطرد-الأول من نوعه في بلد كبير- في بيان أصدرته وزارة الخارجية الروسية ” أنه و بسبب تجاوز موظفي الوكالة للأهداف المعلنة للتنمية و التعاون الإنساني, و نحن هنا نتحدث عن محاولتهم التأثير على العملية السياسية من خلال المنح التي يقدمونها“.
    كانت ردة الفعل الغاضبة جداً التي أبدتها وزارة الخارجية الأميركية على هذا الخبر نموذجاً على النفاق و التخبط الذي عانى منه برنامج الترويج للديمقراطية بعد الحرب الباردة منذ البداية. هذا و قد أعلنت فيكتوريا نولاند (Victoria  (Nuland- الناطقة الرسمية لوزارة الخارجية الأمريكية- بأن الولايات المتحدة “كانت ملتزمة بدعم الديمقراطية و الحقوق الإنسانية و تطور مجتمع مدني أكثر فعالية (more robust )في روسيا”. و أضافت بتحدي بأن واشنطن تتطلع ” للاستمرار بالتعاون الوثيق مع المنظمات الروسية غير الحكومية”.
    من المنطقي جداً أن تعارض إدارة أوباما حكومة بوتين و تدعم المجموعات المعارضة مثل مجموعة ميموريال ((Memorial و مجموعة مراقبة الانتخابات (NGO Golos) و منظمات أخرى تعارض نظام بوتين, و لكن من السخيف بمكان التظاهر بأن واشنطن لا تتدخل في الشؤون الداخلية الروسية. و قد يكون فلاديمير بوتين تماماً ما يقوله عنه خصومه في المعارضة الروسية الديمقراطية و لكن حقيقة أنه سيء لا تعني أنه على خطأ. فقد موّلت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) مجموعات ترغب بالوصول إلى حكومة مختلفة و أكثر ديمقراطية في الكرملين. و يخبرنا سخط الولايات المتحدة من هذه الديكتاتورية- التي ظهرت جاهزة لمنع الولايات المتحدة من التلاعب بأعدائها- الكثير عن الإيهام الذاتي و الاستحقاق المتعالي الذي يعاني منه برنامج صناعة الديمقراطية.
   عاجلاً أو أجلاً ستدرك الولايات المتحدة أن قوانين اللعبة العالمية قد تغيرت و ها هي الآن عاجزة عن إدراك عدم قدرتها على أن تكون فاعلة في توجيه الصين نحو الديمقراطية. و لكن لا يبدو أن صناع السياسة الأمريكية سيتراجعون عن التزامهم بالديمقراطية. حتى الآن لا يزال مناصروا برنامج ترويج الديمقراطية يقودون العربة. و لكن العبقري توم كاروذرس (Tom Carothers) من منظمة كارنيغي انداومنيت(Carnegie Endowment)17– أكفأ شخص في البرنامج- سلّم بالمشاكل التي يعاني منها برنامج ترويج الديمقراطية. و لكن مناصرو البرنامج لا يزالون يعتقدون بأن البرنامج فعّال جداً بالرغم من تحديات بيئة عالم اليوم. إن كان هذا صحيحاً فهذا ما سيطغى على المشهد, و لكن على صنّاع السياسة الأمريكيين طرح سؤال مختلف حول إن كان لالتزامهم ببرنامج ترويج الديمقراطية أي معنى بالنسبة للمصالح الوطنية. و لا نزال نجهل إن كان جورج سوروس على حق عندما ادعى أنه و بعد التداعي المباشر لانهيار الاتحاد السوفيتي ظهرت إمكانية خلق مجتمع عالمي منفتح. و يتضح حالياً أن هذه الفرصة- إن وجدت حقاً- فهي أصبحت من الماضي.  ففي عالم حيث التاريخ لم ينته من كل بد و حيث يوجد العديد من النماذج الاقتصادية المتنافسة و التي عليها أن تتعايش معاً في غياب توافق ديمقراطي عالمي, لما إذا يبقى برنامج ترويج الديمقراطية أولوية السياسة الخارجية للولايات المتحدة؟
   كان هناك خلال الحرب الباردة مصلحة واضحة من برنامج ترويج الديمقراطية فقد كان سلاحاً في ذلك الصراع. و عند انتهاء الحرب الباردة كان من الممكن رؤية بروز نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة. آنذاك كان الاستمرار ببرنامج ترويج الديمقراطية قراراً حكيماً تماماً من جانب صناع السياسة لأن هذا القرار من شأنه أن يدعم ذلك النظام العالمي. و لكن الآن و بعد أن تحول النظام العالمي الجديد إلى شيء خرافي لما إذا الاستمرار بإتباع سياسة وضعت لأزمنة و ظروف أخرى؟ تاريخياً لا يمكن التشكيك بأن الولايات المتحدة تملك مفهوماً ثورياً لدورها في العالم, و لكن و في هذه الظروف العصيبة فهل من الحكمة أن تواصل الولايات المتحدة أجندة الإرساليات التي أطلقتها في مراحل معينة من الماضي؟ مرة أخرى لننظر إلى روسيا الاتحادية. ففي العديد من المناطق حول العالم تتعارض مصالح الولايات المتحدة و روسيا و في مناطق أخرى تلتقي هذه المصالح. إذا و بالنظر لهذه الظروف فما هي الأسباب التي تصب في الصالح العام من وراء دعم المعارضة الداخلية لنظام بوتين و الإصرار على استمرار الدعم مهما حدث؟ هناك مصطلح لهذا المشروع؛ مصطلح       “تغيير النظام“. و حقيقة أن الأدوات المستخدمة لإجراء هذا المشروع سلمية و ليست حملات عسكرية لا تغير شيئاً من شكل الدولة النهائي الذي يسعى مشروع صناعة الديمقراطية إلى تحقيقه.
   من كل بد ستكون المسألة الروسية الأولى من نوعها, و بشكل واضح سبب صعود الصين و الانحدار النسبي للولايات المتحدة زعزعة في المؤسسة السياسية الأمريكية. و لا تملك الولايات المتحدة أي خبرة في مواجهة الضربات الناجحة إلى طموحاتها بصناعة الديمقراطية و بلا شك هي تتخبط لمعرفة ما يجب أن تفعله حيال الأمر. و في زمن يتسم بالغموض فإن الغريزة الأولى عند البشر هي غالباً مواصلة ما يفعلون و كأن التغيير لم يحدث. يمكن تفهم قرار الولايات المتحدة الاستمرار بتبني ترويج الديمقراطية كشعار لها و لكن هذا لا يعني أن القرار أكثر حكمة مما هو الآن.

ديفيد رِيّف

ذا ناشونال انترست

24 تشرين الأول 2012

ت: عزّة حسون


هوامش

1- جورج سوروس(George Soros): قطب اقتصادي أمريكي من أصول هنغارية.  يرأس منظمة سوروس للإدارة التمويلية. بين عامي 1979 و 2011 منح ما يقارب 8 مليار دولار لدعم حقوق الإنسان و الصحة العامة و القضايا التعليمية. لعب دورا مهما في الانتقال من الشيوعية إلى الرأسمالية في هنغارية. و قدم لأوربا أكبر برنامج منح في جامعة سنترال يوروبيان في بودابست.
 2- كارل بوبر (Karl Popper): عمل بوبر كبروفيسور في كلية الاقتصاد بجامعة لندن وكتب بغزارة عن الفلسفة السياسية و الاجتماعية. نال عام 1992 جائزة كيوتو للآداب و الفلسفة. من المعروف عنه أنه دافع بحماسة عن الديمقراطية الليبرالية.
 3- جون غري (John Gray ): كاتب و صحفي بريطاني. عمل غري كمدّرس في كلية الاقتصاد بجامعة لندن و كتب العديد من الكتب في السياسة و الفلسفة منها: الغروب المزيف: وهم الرأسمالية العالمية.
 4- وودرو ويلسون(Woodrow Wilson): الرئيس الثامن و العشرين للولايات المتحدة و حكم لولايتين رئاسيتين من عام 1913 إلى 1921.
 5- جون. إل. أو سوليفان (John L. O’Sullivan): صحفي و محرر أمريكي. كان شخصية سياسية بارزة و لكن اختفى عن الأنظار لفترة ثم أعيد اكتشافه بعد أن تم نسب مصطلح ” القدر الجليّ” إليه.
 6- فيليم دي كوننغ (Willem de Kooning): رسّام أمريكي من أصول هولندية. بعد الحرب العالمية الثانية أخذ يرسم وفق الأسلوب التعبيري المجرّد و كان عضواً فيما عرف آنذاك “بمدرسة نيويورك”.
 7- جاكسون بولوك (Jackson Pollock): رسّام أمريكي اتبع أيضاً الأسلوب التعبيري المجرّد. و من المعروف عنه أنه من أكثر الفنانين عزلة و لديه شخصية غريبة. كان عضواً في “مدرسة نيويورك” مع زوجته الرسّامة “لين كرينزر” التي كان لها دوراً مهماً في مسيرته الفنية.
 8- روبرت موذرويل ((Robert Motherwell: رسّام أمريكي و أصغر عضو في “مدرسة نيويورك”.
 9- نيلسون روكفيلر (Nelson Rockefeller): سياسي و رجل أعمال أمريكي. عمل كنائب للرئيس جيرالد فورد و شغل أيضاً منصب عمدة نيويورك.  شغل عدة مناصب في إدارات الرئيس روزفلت و هاري ترومان و دوايت أيزنهاور.
 10 -توم برادن (Tom Braden): صحفي و سياسي أمريكي. ترأس أثناء الحرب الكورية 1950 قسم المنظمات الدولية التابع لوكالة الاستخبارات المركزية. تركزت جهود برادن على دعم الجناح اليساري المعادي للاتحاد السوفيتي و قام بتجنيد العديد من الشيوعيين المعادين للاتحاد السوفيتي خاصة ممن كانوا في النقابات العمالية الأوربية. بعد سنوات من العمل لصالح الوكالة كشف عن دوره في هذه الأحداث في سيرته الذاتية ” Eight is Enough ” التي حاول فيها تلميع صورة الوكالة ولكن أتت اعترافاته لما قام به و كشفه عن العديد من الأسماء ضد هدفه الأساسي.
 11- جوزيف ناي (Joseph Nye): سياسي أمريكي مختص في العلاقات الدولية و صاحب المصطلح الشهير”القوة الناعمة”. سمّته مجلة فورن بوليسي كأهم مفكر عالمي لعام 2011.
 12- كلاوسفيتز(Clausewitz): سياسي و منظّر في فن الحرب. ركز في كتاباته على الجانب الأخلاقي و السياسي للحرب. بالرغم من أنه بالكاد يعتبر من أتباع الفلسفة الهيغيلية و لكنه ركزّ في كتاباته على العلاقة الجدلية بين العوامل المتمايزة التي تظهر في أي حرب.
 13- فاسليف هيفال (Vaclav Havel): شغل منصب أول رئيس لجمهورية التشيك( 1993-2003) و كاتب مسرحي مشهور, له عشرين مسرحية مترجمة و تم تصنيفه عام 2005 كأهم شخصية فكرية من بين 100 شخصية عالمية. عند وفاته  كان رئيس مؤسسة حقوق الإنسان الموجودة في نيويورك.
 14-جوزيف برودسكاي (Joseph Brodsky): شاعر روسي  معروف بمشاكسته لسلطات الاتحاد السوفيتي. تم نفيه خارج الاتحاد عام 1972 و استقر في الولايات المتحدة حيث عمل كمدّرس في جامعاتها مثل يال و كامبريدج و ميشيغان. حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1987.
 15- مؤسسة المنح الوطنية لدعم الديمقراطية (NED): The National Endowment for Democracy
 16-يجب التوضيح هنا أنه و في هذا السياق يظهر كل من الجمهوريين و الديمقراطيين في الولايات المتحدة و الديمقراطيين الاشتراكيين و الديمقراطيين المسيحيين و البيروقراطيين الأوربيين(Eurocrats ) على وجه الخصوص – الليبراليون صفةً و ليس عقيدة- كخير توضيح لفكرة فرويد عن نرجسية الاختلافات الصغيرة التي لا ترقى إلى خلاف عقائدي جاد.( المؤلف)
 17-منظمة كارنيغي انداومنيت(Carnegie Endowment):منظمة لتقديم النصائح في السياسة الخارجية و مركزها العاصمة واشنطن. تصف المنظمة نفسها بالمُخلصة لتحقيق التعاون بين الأمم و ترويج ارتباط عالمي نشط بين دول العالم والولايات المتحدة. أسسها اندرو كارنيغي.تصدر عن المنظمة مجلة فورن بولسي Foreign Policy كل شهرين و ذلك حتى عام 2008.
 + في مقالة “معالم النظام العالمي : الهيمنة و عدم الاستقرار و رهاب الأجانب في عالم متغير” يلفت تشومسكي الانتباه إلى فكرة موازية: “أوضح رئيس اللجنة الفرعية لشؤون البيئة أن الاحترار الكوني ليس مشكلة لأن الله وعد نوح بأن لا يتكرر الطوفان مرة ثانية. لو حدث هذا في بلد صغير و بعيد لضحكنا, و لكننا لا نضحك عندما يحدث في أغنى و أقوى البلدان في العالم. و قبل أن نضحك يجب علينا أن ألا ننسى بأن الأزمة الاقتصادية الحالية تعود بمقدار صغير إلى الإيمان المتعصب بهذه العقائد على اعتبار أنها فرضيات السوق الأكثر فاعلية. هذا ما أشار إليه الحاصل على جائزة نوبل جوزيف ستيغليتز(Joseph Stiglitz) ب ” الدين” الذي يؤمن به السوق ” قبل خمسة عشر عام.(المترجمة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق