الأربعاء، 25 فبراير 2015

الفرس وإعادة صناعة التاريخ/ آلية التجميد والتحريك



الفرس وإعادة صناعة التاريخ/ آلية التجميد والتحريك


د. طه الدليمي | بتاريخ 17 يناير, 2015

   

في الذكرى السادسة والعشرين للغزو الأمريكي الأول للعراق سنة 1991 دعونا نتحدث عن هذا الغزو ولكن بطريقة قد تبدو بعيدة عن الذكرى. والحقيقة أنها في لب الموضوع إذا كانت الجذور هي الأصل. وهي كذلك.

قبل حوالي شهرين كتبت مقالاً عن “الذكاء التاريخي بين السنة والشيعة”، واتخذت من “مقتل سعيد بن جبير مثالاً” على ما أقول، بينت فيه كيف أن الفرس – بعد أن استعصى عليهم تصنيع القرآن – لجأوا إلى تصنيع الحديث لكن لم يفلحوا إلا بدرجة لا تروي غلتهم أو تغذي علتهم. فكان خيارهم مع التاريخ فأعادوا تصنيعه على عينهم، وقد نجحوا في هذه أيما نجاح! بحيث تمكنوا من تصدير هذا (المنتج المعاد) إلى بيئتنا ليصوغوا منه ثقافة عربية المظهر شعوبية الجوهر. هذه الثقافة هي التي مكنت وتمكن الشيعة من التغلغل في أوساط الأمة ثم السيطرة على دولها. التاريخ كتب بأصابع عربية لكن بشفاه فارسية.


تجميد التاريخ وتحريكه

لم يقتصر الفرس على تزوير التاريخ كتابة، إنما أدخلوه في معاملهم ليخرجوا منه بمنتجات متعددة الأشكال والطعوم. فاستخرجوه من بطون الكتب إلى ميدان الواقع شاخصاً متحركاً أمام العيون، وبآلية التكرار الذاتي أو المفتعل يترسب في أذهان العامة ومعظم (الخاصة) كحقائق لا تقبل النقض، تصاغ منها ثقافة مشوهة، تستغل لبناء مواقف مدمرة.

آلية (تجميد التاريخ) إحدى أدوات تصنيع التاريخ..

بها يستغرق الشيعي في أحداث معينة من الماضي، ويجمد حيالها حتى كأن عجلة التاريخ قد توقفت حركتها عند أعتابها، وتوقف الزمن فلا حاضر إلا ذلك الماضي بأحداثه تلك: (باب خيبر، الخندق وأسطورة ابن ود العامري، غدير خم، خرافة كسر ضلع الزهراء، معركة الجمل، صفين، الطف)، وما يرافق ذلك وغيره من الأحداث من الطعن في تاريخ الأمة وتشويهه ليتطابق مع الرغبة المنحرفة للنفسية الفارسية في ما تتمنى هذه النفسية أن يكون عليه تاريخنا وتاريخهم، لا ما هو عليه في الواقع. يجتر الشيعي من خلال تلك الحوادث – التي رسم صورتها كما تشتهي نفسيته المريضة، وجمدها على تلك الصورة – شعوره بالغبن والاضطهاد، ويسترجع لحظات من النشوة حين ترتسم في ذهنه صورة إمامه الأسطورية في الفروسية وقتال الأعداء، أو الصبر على تحمل المعاناة، أو المثالية في التعبير عن قيم الرجولة والشهامة والمروءة، أو القدرة الفائقة على حل المشاكل وتحقيق الخلاص السحري من المآزق (المهدي المنتظر). وفي السياق نفسه يأتي رسم الحوادث بطريقة (التفكير الارتغابي Wishful thinking) لتشكل كما يريد صاحب المعمل لا كما وقعت بالفعل.

واتبع الفرس آلية أَخرى ذكية وخطيرة هي (تحريك التاريخ)..

هاهو التاريخ أمام أعين الجمهور أينما كانوا. فبدلاً من الذهاب إلى التاريخ لمعرفة الماضي، وهو ما لا يتهيأ لعامة الناس، عمل الفرس على الإتيان بالتاريخ نفسه إلى أحضان الجمهور! وبدلاً من استنطاق التاريخ، الأمر الذي لا يجيده الجمهور عادة، وقد يتم بلغة لا يريدها صاحب المصنع، ها هو التاريخ ينطق بنفسه دونما حاجة إلى جهد أو عناء، ولكن بعد تصنيع حنجرته لتحدثه حسب تعليمات المصَنِّع.

في صيف 2006 روى صاحب لي كان في رحلة من البصرة إلى الأحواز فقال: في الطريق من (مهران) إلى (إيلام) كنت أشاهد صوراً لقتلى إيران الذين سقطوا في حربهم على العراق (1980-1988) معلقة على جانبي الطريق. وكذلك من (مهران) إلى (دهليران)، ومن (إندمشك) إلى (الأحواز) إلى (عبادان)، مرسومة باليد، مكتوباً عليها عبارة (شهداء جمهوري إسلامي)، مع عبارة أخرى تعني أن صدام وجيشه هم من قتلوهم. فتذكرت أين شهداؤنا من الضباط والجنود؟ حيث لا ذكرى ولا صورة ولا من يترحم عليهم.وفوجئت بشيء آخر هو الدبابات العراقية المدمرة على جانبي طريق (إيلام – مهران) وعلى مدى (80) كيلمرفوعة على حجر مرصوص، ومكتوباً عليها (دبابات صدام). شعرت أنهم يعيروني فبكيت في داخلي من المرارة. وقبل دخولنا (إندمشك) قادمين من (دهليران) شاهدت صورة لفرس بيضاء عليها خيّال (فارس) يرتدي عمامة وفي يديه بندقية مسدداً فُـوَّهَتها جهــة العراق.

المقابر صورة أخرى من صور (تحريك التاريخ)!


الذاهب إلى مقبرة (وادي السلام) في كربلاء يجد فيها حيزاً واسعاً معزولاً عن بقية القبور يضم آلاف القبور لأشخاص مجهولي أو منزوعي الهوية عمداً. على أساس أنهم قتلى الشيعة بيد (النواصب) السنة. علماً أن معظمهم من السنة الذين قتلتهم المليشيات وقوى الأمن الشيعي، ونزعت منهم هوياتهم. هذا ما ابتكره العقل العربي الشيعي. أما العقل الفارسي فانظر ماذا صنع!

يقول شاهد آخر: “من زار ايران بعد عشرين عاماً من انتهاء الحرب العراقية الايرانية (1980- 1988) لا بد وأن يكون قد دهش لذلك العدد الهائل من الجداريات الكبيرة التي تطل من فوق الأبنية الشاهقة على ميادين أو نواصي الشوارع الرئيسية في طهران ومعظم المدن الإيرانية الكبرى والتي تجسد المعارك التي خاضها الحرس الثوري الإيراني في تلك الحرب التي لا يزال كل إيراني يسميها بالحرب المفروضة من قبل صدام. في معظم تلك الجداريات التي لا بد وأن معالمها وطلاءها الزاهي ظلا يتجددان بعناية خلال كل هذه الاعوام، تطل عادة صورة الإمام الخميني بنظرته الثاقبة إلى جانب صورة شهيد أو مجموعة من شهداء الحرب، وعادة مايكونون من قادة الحرس الثوري، أو من طلائع الشخصيات المرتبطة بالثورة الإسلامية، ترافقها عبارات التخليد والتكريم لهم وللمعارك التي سقطوا فيها”.


مقبرة “بهشت زهراء” جنوب طهران

ويستمر الشاهد الآخر في نقل مشاهداته: “وعلى مسافة 20 كيلو متراً جنوب طهران يبرز معلم آخر من تلك المعالم التي ستظل ترتبط بتأريخ أطول حرب تقليدية خاضها بلَدان في القرن العشرين،ألا وهي مقبرة “بهشت زهراء” والتي يشكل الجزء المخصص منهالضحايا معارك الحرب من الإيرانيينشاهداً أخر على تلك الذكريات الأليمة التي حفرتها في النفوس والتي سيصعب نسيانها، ربما الى وقت طويل. في هذا الجزء تصطف قبور تبدو للناظر بلا نهاية في افق المقبرة المحاطة بالأشجار الباسقةيحمل كل منها شاهداً من الحجر، او من المرمر، نقش عليه اسم صاحبه مقرونا عادة بعبارة “المجاهد الشهيد”، بينما يعلو الشاهد المكسو بإطار زجاجي شفاف هيكل معدني يحمل صورة الفقيد الموشاة بالعلم الإيراني وايات من القران الكريم. الى جانب هذه القبور وفي بقع منفصلة هناك آلاف غيرها لا تحمل اسماً او تعريفا باصحابها غير كلمة “كمنام” التي تعني بالعربية انها مجهولة الهوية والتي قد تكون لقتلى ايرانيين لم يتم التعرف على هوياتهم او ربما تعود الى عراقيين، او عرب حاربوا الى جانب العراق وسقطوا في تلك الحرب، في مفارقة غريبة ان تحتوي تلك البقعة على رفات المتحاربين من كلا الطرفيين”.


نافورة الدم

“غير أن اكثر معالم تلك المقبرة إثارة هي نافورة الدم والتي تتصدر مدخلها وهي عبارة عن حوض واسع متعدد الطبقات مكسو بالسيراميك القرمزي حيث تتدفق من اعلى طبقة فيه شلالات من المياه مصبوغة بلون احمر قاني، شبيه بلون الدم، تعطي الزائر إحساساً طاغياً برهبة المكان وتأخذه، خاصة إذا ما كان قد عاصر الحرب وشاهد بعض وقائعها على شاشات التلفزيون، بعيداً لسنين طويلة الى وراء، والى ساحات القتال التي ضلت مصبوغة لثمان سنوات.

ولعل أكثر الدلالات رمزية لتلك النافورة المتدفقة بالدم الرمزي هي انها تبغي القول لزوار المقبرة بأن دم الشهداء الذين يرقدون قربها سيضل يروي الارض التي تحتضنهم الى الابد. اي بمعنى آخر انها المياه التي ستظل تسقي بذرة الثورة الاسلامية ، وتنتج اجيالاً اخرى من الإيرانيين الذين هم على استعداد دائم للتضحية والشهادة في سبيل نفس القضية التي مات من اجلها الذين دفنوا في تلك المقبرة الواسعة الارجاء، وهي قضية الثورة التي فجرها الخميني والذي يرقد هو نفسه في ضريح منيف اقيم على طرف “بهشت زهراء” المطل على الطريق الذي يربط طهران بمدينة قم المقدسة.

وفي ايران، وبعد عشرين عاما دار الزمن بالاقليم دورات درامية من الحروب والازمات والعواصف السياسية، لا تمر ليله واحده دون ان تعرض القنواة الايرانية الرسمية المتعددة برامج وافلاماً وثائقية وروائية ومسلسلات تتناول جميعها تلك الحرب، بشكل او باخر، تعيد الى الإيرانيين مشاهد عن الحرب، وكأنها لا تزال تدور بكل حرارتها وعنفها على الجبهات. في البرنامج الحوارية التلفزيونية يستعيد المحاورون بطولاتهم او ذكرياتهم عن تلك الحرب، ودائماً بطريقة لا تفتقر الى الحرارة والحماس والغضب، وكأن الوقائع التي يرونها للمشاهدين هي من بنات الأمس القريب وليس تاريخاً مضى عليه عقدان من الزمن. أما في الأفلام والمسلسلات فان مؤثرات الصوتية وتقنية عالية في الإبهار الصوري تلعب دورها في أسطرة الاحداث المروية التي تسعى لرفض اي فكرة او انطباع بان الحرب اصبحت مجرد شبح من الماضي، وبهدف واضح يتجاوز الاحتفال بها الى ترسيخها في ذاكرة وحقول المشاهدين كونها جزءاً لا يتجزء من إستراتيجيات صراع لا ينتهي مع الجارة الغربية، حتى بعد سقوط صدام وإعدامه وحلول جماعات صديقة لإيران على دست الحكم في بغداد”([1]).

هل أدركنا الآن عمق المعركة بين الوجود الفارسي والوجود العربي؟ وعلمنا مدى خطورة التاريخ كسلاح في هذه المعركة؟ ودوره في تصنيع الثقافة الشعبية؟ وكيف استثمره الفرس؟ ومدى تخلف العرب في استثمار عقلهم وفكرهم في هذا الميدان الخطير!

عذراً.. وهل يجد القارئ جواباً لسر الشعار الذي رفعناه: “إلى متى نحن نصنع التاريخ وهم يكتبونه؟ نحن نصنع التاريخ؛ نحن نكتبه”؟ وهل من مشمر معنا لإعادة كتابة التاريخ بأقلامنا، بعد أن صنعناه بزنودنا؟ واستثماره في بناء ثقافة شعبية جديدة بعيدة عن رعونات الشيعة الحاقدين وخباثات الفرس الماكرين؟

17/1/2015

[1]- كلب أصفهان الذات المكبوتة في جدلية الصراع بين العرب وإيران، صلاح النصراوي، ص91-93.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق