الجمعة، 19 ديسمبر 2014

درء الشكّ عمّا أَشْكَلَ مِن حديث الإفك آية الحجاب

درء الشكّ عمّا أَشْكَلَ مِن حديث الإفك


بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد
فهذه تعليقات حديثية أوضحتُ فيها المشكلَ مِن حديث الإفك –وَمَتْنُهُ طويلٌ جدًّا-، وقد بينّت وجه الحق في هذه الروايات التي قد يُتَوَهّم في بعض ظاهرها الوهم والخطأ والتناقض.
فمِن ذلك:
1) قول الزهري: «ووعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة»:
قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (8/457): «ليس المراد أن عائشة تروي عن نفسها؛ بل معنى قوله: «عن عائشة»؛ أي: عن حديث عائشة في قصة الإفك».
2) وقـوله: «وبعـض حديثهم يصدّق بعضاً»:
قال الحافظ في «الفتح» (8/457): «كأنه مقلوب، والمقام يقتضي أن يقول: وحديث بعضهم يصدق بعضاً، ويحتمل أن يكون على ظاهره، والمراد: أن بعض حديث كل منهم يدل على صدق الراوي في بقية حديثه؛ لحسن سياقه، وجودة حفظه».
وقال القاضي عياض في «إكمال المعلم» (8/286): «وقول ابن شهاب: (وذكره)؛ مما انتُقد قديماً على الزهري لجمعه الحديث عنهم، وإنما عند كل واحد منهم بعضه، وقيل: كان الأَوْلى أن يذكر حديث كل واحد منهم بجهته، ولا دَرْكَ على الزهري في شيء منه؛ لأنه قد بين ذلك في حديثه، والكل ثقات أئمة لا مطعن فيهم، فقد علم صحة الحديث، ووثق كل لفظة منه؛ إذ هي عن أحدها ولا الأربعة الأقطاب عن عائشة».
قلت: وانظر «طرح التثريب» (8/47).
3) وقوله: «وإن كان بعضهم أوعى له من بعض»:
قال الحـافظ: «هو إشارة إلى أن بعض هؤلاء الأربعة أميز في سياق الحديث من بعض؛ من جهة حفظ أكثره؛ لا أن بعضهم أضبط من بعض مطلقاً».
قلت: ولذلك قال - قبل-: «وبعضهم أوعـى لحديثها- يعني: الحـديث المذكور خاصة- من بعض وأثبت اقتصاصاً؛ أي: سياقاً، ووعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة؛ أي: القدر الذي حدثني بـه، وكل قد حدثني بطائفة من حديثها».
قال الحافظ: «وحاصله: أن جميع الحديث عن مجموعهم؛ لا أن مجموعه عن كل واحدٍ منهم».
وقال -أيضاً- (8/479): «في هذا الحديث من الفوائد؛ جواز الحديث عـن جماعة ملفقاً مجملاً».
وانظر- غير مـأمور-: «شرح صحيح مسلم» للنووي (17/102).
4) قول عائشة –رضي الله عنها-: «وكان يراني قبل الحجاب»:
قال الحافظ (8/462-463): «أي: قبل نزول آية الحجاب، وهذا يدل على قدم إسلام صفوان؛ فإن الحجـاب كان -في قول أبي عبيدة وطائفة-: في ذي القعدة سنة ثلاث، وعنـد آخـرين فيها سنة أربع؛ وصححه الدمياطي، وقيل: بل كان فيها سنة خمس، وهذا مما تناقض فيه الواقدي؛ فإنه ذكر أن المريسيع كان في شعبان سنة خمس، وأن الخندق كانت في شوال منها، وأن الحجاب كان في ذي القعدة منها مع روايته حديث عائشة –هـذا-؛ وتصريحها فيه بأن قصة الإفك التي وقعت في المريسيع كانت بعد الحجاب، وسلم من هذا ابن إسحاق؛ فإن المريسيع عنده في شعبان، لكن سنة ست ... ومما يؤيد صحة ما وقع في هذا الحديث -أن الحجـاب كان قبل قصـة الإفك-: قـول عائشة- أيضاً- في هذا الحديث: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل زينب بنت جحش عنها، وفيه: «وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-»، وفيه: «وطفقت أختها حمنة تحارب لها»؛ فكل ذلك دال على أن زينب كانت حينئذ زوجته، ولا خـلاف أن آيـة الحجـاب نزلت حين دخوله -صلى الله عليه وسلم- بها؛ فثبت أن الحجاب كان قبل قصة الإفك.
وقد كنت أمليت في أوائل «كتاب الوضوء» [(1/249)]: أن قصة الإفك وقعـت قبل نزول الحجاب؛ وهو سهو، والصواب: بعد نزول الحجاب؛ فليصلح هناك».
وقال شيخنا الإمام الألباني -رحمه الله- في «مختصر صحيح البخاري» (3/53): «تعني: قبل نزول آية الحجاب: 
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ }.
واعلم أن (الحجاب) في هذه الآية غير (الجلباب) في آية سورة النور؛ فالأول: والمرأة في بيتها تتستر بأي حاجز منفصل عنها؛ كالستارة المعلقة، أو الباب ونحوه، فهو كقوله –تعـالى-: 
{فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً }[مريم:17].
وأما الجلباب؛ فهو الثوب الذي تلتحف به المرأة إذا خرجت من دارها؛ فتنبه لهذا؛ فإن كثيراً ممن كتبوا في هذا الموضوع خلطوا بين (الحجاب) و(الجلباب)، وقد فرّقت عائشة بينهما كما ترى».
5) وقولها –رضي الله عنها-: «والله؛ ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته»:
في رواية معمر بن راشد: «حين»، قال الحافظ ابـن حجر (8/463): «وعلى التقديرين، فليس فيه نفي أنه كلمها بغير الاسترجاع؛ لأن النفي على رواية «حين» مقيد بحال إناخة الراحلة، فلا يمنع ما قبل الإناخة ولا ما بعدها، وعلى رواية «حتى»؛ معناها بجميع حالاته إلى أن أناخ، ولا يمنع ما بعد الإناخة.
وقد فهم كثير من الشراح أنها أرادت بهذه العبارة نفي المكالمة البتة، فقالوا: استعمل معها الصمت؛ اكتفاء بقرائن الحال، مبالغة منه في الأدب، وإعظاماً لها وإجلالاً. انتهى.
وقد وقع في رواية أبي أويس: فاسترجع، وأعظم مكاني -أي: حين رآني وحدي-، وقد كان يعرفني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فسألني عن أمري، فسترت وجهي عنه بجلبابي، وأخبرته بأمري، فقرب بعيره، فوطئ على ذراعه فولاني قفاه وركب.
وفي حديث ابن عمر: فلما رآني ظن أني رجل، فقال: يا نومان! قم؛ فقد سار الناس...».
6) قال عروة: وكانت عائشة تكره أن يُسَبَّ عندها حسان بن ثابت؛ تقول: إنه الذي قال:
فإنَّ أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاءُ
قال الحافظ ابن كثير في «تفسير القرآن العظيم» (6/33): «... ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول -قبّحه الله –تعالى- ولعنه- وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث، وقال ذلك مجاهد وغير واحد.
وقيل: بل المراد به: حسان بن ثابت، وهو قول غريب، ولـولا أنه وقع في «صحيح البخاري» ما قد يدل على ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن محاسنه أنه كان يذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشعره، وهو الذي قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اُهْجُهم وجبريل معك».
وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق، قال: كنت عند عائشة –رضي الله عنها- فدخل حسان بن ثابت، فأمرت فألقى له وسادة، فلما خرج قلت لعائشة: ما تصنعين بهذا؟ يعني: يدخل عليك –وفي رواية: قيل لها: أتأذنين لهذا يدخل عليك، وقد قال الله: 
{
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؟ قالت: وأي عذاب أشد من العمى -وكان قد ذهب بصره- لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب الأليم، ثم قالت: إنه كان ينافح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفي رواية: أنه أنشدها عندما دخل عليها شعراً يمتدحها به، فقال:
حصان رزان ما تُزَنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت: أما أنت فلست كذلك.
وفي رواية: لكنك لست كذلك».
قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (8/485): «وفي رواية شعبة -في الباب الذي يليه-: «تَدَعين مثل هذا يدخل عليك، وقد أنزل الله: 
{
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ٌ}، وهذا مشكل؛ لأن ظاهره أن المراد بقوله:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ٌ} هو حسان بن ثابت، وقد تقدم قبل هذا أنه عبد الله بن أبي وهو المعتمد، وقد وقع في رواية أبي حذيفة عـن سفيان الثوري عن أبي نعيم في «المستخرج»: «وهو ممن تولى كبره» فهذه الرواية أخف إشكالاً».
قلت: الحق الذي لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه: أن الذي تولى كبر الإفك، هو: عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول المنافق، وبذلك تظاهرت الروايات في البخاري عن عائشة –رضي الله عنها- وهـي صاحبة القصة وأعلم الناس بأحداثها.
وكذلك ثبت في «البخاري» عن الزهري، وهو أحد رواتها ونقلتها.
فإذا تبين ذلك فما كنا بحاجة للكلام في هذا وتثبيته بالأدلة والبراهين بعد أن استفاض أن صاحب هذه المقالة الخبيثة التي تولى كبرها هو رأس النفاق عبد الله بن أُبَيّ، لولا ما ورد أن حسان بن ثابت ومِسطحاً وحمنة ممن تولى كبر ذلك.
وقد أورد الطبري في «تفسيره» (18/89) الأحاديـث التي يُفهم منها أن حسان ومسطحاً وحمنة كانوا ممن تولّوا كبر الإفك، ثم قال: وأولى القولين بالصواب: قول من قال: الذي تولى كبره من عصبة الإفك عبد الله بن أُبَيّ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن الذي بدأ بذكر الإفك وكان يجمع أهله ويحدثهم عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول.
وإذا كان كذلك، فالجمع أولى من نصب الإشكال والمعارضة بين الروايات؛ فإن عبد الله بن أُبَيّ هو الذي تولى كبره فاخترع حادثة الإفك مع صحبة من المنافقين وروّجه في المدينة، وكان يصول ويجول، وهو الذي يجمع الناس في بيته ممن هم على شاكلته في الخبث والنفاق.
وكان يذيع ذلك ويردّده مع عصابته وأهل بيته، ولما انتشر الكلام في ذلك من قبلهم، وكانوا يتناقلونه فيما بينهم أَثّر ذلك في بعض المؤمنين، وصاروا يتكلمون به.
هذا الذي استقر عليه المحققون من أهل العلم، ويؤيده أن الآية الكريمة هدّدت الذي تولى كبره بالعذاب الأليم
{
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وهذا التهديد يتناسب مع نفاق عبد الله ابن أُبَيّ، وأما من ذُكر من الصحابة كحسان ومسطح وحمنة –رضي الله عنهم- المشهود لهم بالخير -فإنهم لا يدخلون في هذا الوعيد كما هو ظاهر، وإنما يدخلون في مثل قوله
-تعالى-: 
{
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ}[النور:12].
فهذا عتاب للمؤمنين الذين تورطوا وانخدعوا بإشاعات النفاق وأكاذيـب المرجفين.
والآيـات التي تضمنت قصـة الإفك واضحة في سياقها: 
{
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ}، والعصـبة مـن العشــرة إلى الأربعين، بينما الصحابة الذين ذُكروا في الإفك ثلاثة، فعُلم أن المراد بالعصبة المُنافقِون، ثم ذكرت الآيات الذي تولى كبره من هذه العصبة، ولا شك أن هذا السياق والسباق يدل على واحد من هذه العصبة، وهو عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول.
وكان حسان –رضي الله عنه-، وكذا مسطح وحمنة ممن سارعوا إلى تصديق الخبر، وكبير هؤلاء هو حسان، فَذُكر –ومَن معه-بالتبعية، لا أنهم تولوا كبره أصالة، وإنما الذي تولاه عبد الله بن أُبَيّ المنافق، لكنهم حين قالوا بمقالته، ذكُروا معه تبعاً، فتكون كل رواية تخبر عن حال وعن مقال وعن مآل، وبذلك تجتمع الروايات -بحمد لله-.
وهذا فهمٌ أقوله تفقهاً واستنباطاً، فإن أصبت ووفقت فمن الله وحده، وإلا فمن نفسي والشيطان, والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق