الأربعاء، 12 فبراير 2014

فن إسقاط الآخرينفن إسقاط الآخرين

فن إسقاط الآخرين
5994 زائر
20-01-2014
د. عمر بن عبد الله المقبل
فن إسقاط الآخرين
زار ياقوتٌ الحمويُّ (ت: 626هـ) في عنفوان شبابه بلدةَ آمِد([1])سنةَ 593هـ، ليَلقى فيها أحدَ المنتسبين للعلم، فبِمَ وصفه ياقوت؟ يقول رحمه الله:
"كان من العلم بمكانٍ مَكين، واعْتَلَقَ مِن حِباله برُكْنٍ ركين، إلا أنه كان لا يُقيمُ لأحَدٍ مِن أهل العلم المتقدمين ولا المتأخرين وزناً، ولا يعتقد لأحدٍ فضيلة، ولا يُقِرّ لأحدٍ بإحسان في شيءٍ من العلوم ولا حسن، فحضرتُ عنده، وسمعتُ مِن لفظِه إزراءَه على أولي الفضل، وتَنديدَه بالمعيب عليهم بالقول والفعل، فلما أبرمني وأضْجَر، وامتدّ في غَيّهِ وأصْحَر؛ قلت له: أما كان في مَنْ تقدَّم -على كثرتهم وشغف الناس بهم- عندك قطّ مجيد؟ فقال: لا أعلم إلا أن يكون ثلاثة رجال:
- المتنبي (ت: 354 هـ): في مديحه خاصة، ولو سلكتُ طريقَه لما بَرزَ علَيّ، ولسُقت فضيلتَه نحوي ونسبتها إليّ!
- والثاني: ابن نُباتة (ت: 374 هـ)([2]) في خُطَبه، وإن كانت خطبي أحسن منها، وأسيَر وأظهر عند الناس قاطبةً وأشهر!
- والثالث: الحريري (516هـ) في مقاماته!"([3])ا.هـ كلام ياقوت، ولم تنته هذه الصورة "الاحتقارية" لأعداء النجاح، والحُسّادِ، ومتطلبي النقائص في جهودِ الآخرين، فهي تلوح لنا في مجالسنا ومنتدياتنا العلمية والثقافية، ومواقع الشبكة العالمية، والإعلام الجديد!
مازال أمثالُ هذا الرجل الذي زارَه ياقوت يعيشون في حياتنا، ويتوسطون مجالسَنا! يعتدل أحدُهم في جلسته، ويغضب وتنتفخ أوداجُه، ويتورَّم أنفُه كلما قرعَ سمعَه صوتُ مادحٍ على أحد، ولسانُه منطلِق في مهمَّته لا يَقف عن مطاردة منجزات الآخرين بالعَيب والانتقاص، فهل تجد أوضح من هذا مثالاً على حرمان بركة العلم والأدب؟!
وتَعظُم الفاجعةُ، ويَهوْل الخطبُ كلما كان المنتقِص صغيراً في بواكير الطلب، ومع ذلك فلسانه مِقراضُ أعراضِ الكبار! يَصدُق عليه المثلُ المشهور: تزبّب قبل أن يَتحصرم!([4])
وسبحان الله! حتى الذين نوّه بفضلهم صاحب ياقوت، لم يتركهم دون انتقاص! فما أثقل الثناءَ المطلَق على بعض النفوس؟! وما أصعب الإشادةَ مِن لسانٍ نَصَب نفسه ميزاناً تُعرَض عليه الأعمال!
قارِن هذا بما قاله الخطيب البغدادي -رحمه الله-: "يُستحبُّ للفقيه أن يُنبِّه على مراتب أصحابه في العلم، وذِكر فضلهم، ويبيّن مقاديرَهم؛ ليفزع الناسُ في النوازل بعدَه إليهم، ويأخذوا عنهم"([5]).
لقد بقيتُ أتأمل في سيرة هذا المُنْتَقِصِ -التي سردها ياقوت في موضع آخر من كتابه- وحاولتُ أن أتقصى أثَرَه في الأمة بعد موته، فلم أر إلا خمولاً لذِكره([6])، فالإنسان حين يُنفِق عمرَه في دفن حسنات الناس؛ فلن يبقى مِن زمانه ما يَبني به منجزاته، وحتى لو بقي، فما أقلَّ بركةَ عملٍ لا يُبنى إلا على أنقاضِ نجاحات الآخرين، والجزاءُ من جنس العمل!
يقول الإمام مالك -رحمه الله-: "أدركتُ بهذه البلدة -يعني المدينة- أقواماً لم تكن لهم عيوب، فعابوا الناسَ فصارت لهم عيوبٌ، وأدركتُ بها أقواماً كانت لهم عيوبٌ فسكتوا عن عيوبِ الناس فنُسيت عيوبهم"([7])، فكيف بمن يجْهَدُ لإسقاط واحتقار جهود العلماء!
كم أتمنى أن يَعي هذا المعنى مَن ابتُلوا بداءِ تصنيف الناس بمناسبة وبغير مناسبة! ويُربُّون تلاميذَهم على هذا المنهج! حتى أصبحت مجالسُهم مطاحنَ تُخرِج مفتونين بالتصنيف، وتؤهِّل علماءَ الردود، بدَل كونها محاضن لنشر العلم، وتزكية النفوس، وإشعال جذوة الإيمان!
أيّ غشٍّ لهؤلاء الطلبة حين تُبنى عقولهم على هذا البناء الذي أُسِّس على شفا جرفٍ هارٍ بحجة بيان حال فلان وعلان، وممارسة "الجرح والتعديل"، والطالب بعدُ في بداية الطريق لا يملك أدوات التقويم والتقييم، فكيف يمارسها؟! فضلاً عن أنه لم يُطْلبُ منه هذا، أو يُنتظر منه.
إن من أعظم النُّصح الذي يقدّمه الشيخ لتلاميذه أن يُربيهم قولاً وعملاً على عفةِ اللسان، والكفِّ عن القيل والقال، والرفقِ في التوجيه، والاشتغالِ بتحصيل العلم النافع والعمل الصالح، والسيرِ على منهج السلف الصالح قولاً وعملاً وسلوكاً! وأن يعوا جيداً نصيحة الفضيل بن عياض -رحمه الله- لأحدهم: «ليكن شغلك في نفسك ولا يكن شغلك في غيرك، فمن كان شغله في غيره فقد مُكِر به»([8])، عندها يكون العلم مباركاً وزكياً، ويُرجى من صاحبه أن يكون عالماً مؤثِّراً.
إن إسقاطَ الآخرين وتهميشَ منجزاتهم وتحقيرَ مكتسباتهم فَنٌّ يجيده الصغار، فهو لا يحتاج مِن المؤهلات إلا لساناً فجّا، وقلماً جريئاً، ونفْساً مريضة!


([1]) "هي أعظم مدن ديار بكر وأجلّها قدراً وأشهرها ذِكراً" اهـ من معجم البلدان (1/ 56). وهي حالياً أكبر مدينة في جنوب شرق تركيا، وغالب سكانها من الكرد.
([2]) هو عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل ابن نباتة الفارقيّ، أبويحيى، صاحب الخطب المنبرية، سكن حلب فكان خطيبها. واجتمع بالمتنبي في خدمة سيف الدولة الحمداني. انظر: الأعلام للزركلي (3/ 347).
([3]معجم الأدباء (6/ 199-200).
([4]) هو مثل يطلق على من تبوأ منزلة قبل أن يتأهل لها. وينظر في سببه وقصته: زهر الأكم (3/ 137).
([5]) الفقيه والمتفقه: (ص٦٦٣).
([6]وأنا هنا لا أتحدث عن منزلته عند الله بل عن أثره في الناس.
([7]الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (1/ 106).
([8]حلية الأولياء (8/ 102).
   طباعة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق